السبت، 30 مايو 2015

"مصر... بين السماء والأرض" - شذى يحي - مجلة المجلة عدد أبريل2015




ظل التحليق في الفضاء حلماً يراود البشرية منذ فجر الحضارات الأولى وأصبح هذا الحلم مثيراً لمخيلة المبدعين والشعراء والمخترعين والمغامرين على مر التاريخ ولعل أسطورة إيكاروس وحكاية عباس بن فرناس وتلك الهالات من القدسية التي أضفاها القدماء على الطيور حامله الرسائل بين السماء والأرض أبلغ الأدله على ذلك ؛ وعندما حقق الإنسان حلمه وحلق في السماء بالمنطاد أولاً ثم بالطائرات بعد ذلك نمت لديه رغبة جديدة في أن يخلد المشاهد التي رآها بعينيه في لحظات نادره طوع فيها قوانين الطبيعه وتحرر من قيود الجاذبية الأرضية ويوثقها مشاركاً إياها مع غيره من البشر الذين لم يتسنى لهم تجربة هذا الشعور وهذا هو ما فعله الفرنسي جاسبار فيلكس تورناشون عندما صور لقطات لباريس من منطاده في العام 1858م كانت هي الأولى في تاريخ البشرية مفتتحاً بها عصر التصوير الجوي وتوالت بعد ذلك ملاحم الرواد في تصوير أركان المعمورة من الجو.
والنمساوي تيودور كوفلر واحداً من أهم هؤلاء الرواد الذين ظلوا مجهولين ولم ينالوا حظهم من إلقاء الضوء والتكريم وظل منجزه في هذا المجال مجهولاً لفترة طويلة حتى أقامت جامعة ميلانو في الفترة من الحادي عشر من فبراير وحتى الثالث عشر من مارس معرضاً فوتوغرافياً بعنوان "مصر من السماء 1914م – تيودور كوفلر الرائد- السجين –المحترف" ، وتضمن هذا المعرض العرض الرسمي الأول لمجموعة صوره ال(21) التي التقطها لأهرامات الجيزة ومعالم أثرية في الأقصر والبر الغربي وتعد الأولى التي أخذت لهذه المعالم من طائرة ومن أوائل الصور التي أخذت من الطائرات عموماً ، أيضاً هي الأولى على الإطلاق بالنسبة للمعالم الأثرية في الأقصر ولكنها ليست الأولى للأهرامات فقد سبق أن صورها السويسري إدوارد سبلتريني من منطاد في العام1904م وإن كانت هذه الصور قد أخذت لأغراض العرض في معارض فنيه وليس لها هدف توثيقي ولم تأتي في إطار مشروع متكامل كصور كوفلر التي التقطت قبل ستة أعوام كاملة من المشروع الذي قام به عالم المصريات جيمس بريستيد في عام1920م لتوثيق الآثار المصرية من الجو بمساعدة سلاح الجو البريطاني بينما لم يتوفر لكوفلر في فترة فجر التصوير الجوي ومراحله التجريبية أي دعم على الإطلاق بل كان جهداً ذاتياً خالصاً منه ، وهو ما يكسب مجموعة كوفلر هذه أهمية كبرى بالنسبة لعلماء المصريات وبالنسبة لتاريخ التصوير الفوتوغرافي خاصة مع الحرفية العالية التي أخذت بها الصور والوضوح الفائق رغم الامكانات الضعيفة ، وقد صاحب العرض الرئيسي "مصر من السماء1914" عرض لمجموعة أخرى من الصور أخذها كوفلر أثناء احتجازه في مالطا اثناء الحرب العالمية الأولى كسجين حرب في الفترة من نهاية1914م وحتى 1916م ووثق فيه الحياة داخل معسكر الاعتقال وانشطة السجناء والأبنية المحيطة وتعد هذه الصور توثيقاً لجانب آخر من الحرب العالمية الأولى أقل قسوة من صور الدمار والقتلى والخنادق وإن كان ليس بأقل مأساوية ؛ وعرض أخر لمجموعة أخذها كوفلر في القاهرة في الفترة من1916م وحتى عام1950م حيث أدار وامتلك على مدار هذه الأعوام العديد من الاستوديوهات وتأتي أهمية هذه الصور في أنها تعكس مظاهر الحياة في القاهرة قبل ثورة 1952م .

وقد جاء هذا المعرض الذي افتتحه السفير علي الحلواني "قنصل مصر بميلانو" كتتويج لعشر سنوات من البحث والدراسه قام بها فريق عمل من جامعة ميلانو تقوده الأستاذة باتريزيا بياسينتني Patrizia Piacentini عالمة المصريات وذلك على خلفية تبرع أحد رعاة الجامعة بألبوم كوفلر الذي كان في حيازة عالم المصريات الإيطالي ألكسندر فاريللي لأرشيف الجامعة ؛ الغرابة في أن أحداً لا يعلم ماهو الدافع الذي دفع كوفلر المولود في إنسبروك – اقليم تيرول"النمسا" في 27يوليو 1877م لأن يقرر في نهايات 1903م أن يرحل إلى القاهرة ويعمل مع مصور مغمور هو" ر. بول" ويتزوج ويستقر تماماُ في القاهرة 1904م لعله البحث عن الثروة ولكنه لم يفكر في خوض غمار مغامرة التصوير من الطائرة إلا في مطلع العام 1914م ، ربما كان السبب تزايد عدد المنقبين عن الآثار والمولعين بسحر الشرق والمغامرين الباحثين عن الكنوز في مصر أثناء تلك الفترة ؛ في ظل وجود هوراشيو كتشنر مندوباً سامياً لبريطانيا العظمى (1911م-1914م) وما أحاط به من هالة أسطورية بعد معركة الخرطوم هذه الهالة التي طمأنت الأوروبيين على وجودهم في مصر وكذلك الوضع الخاص للأجانب الذي فرضته قوانين ذلك الوقت وما اتبع ذلك من الاقبال على صور الآثار المصرية سواء من قبل السياح والمنقبين في مصر أو المبهورين في أوروبا الذين أولعوا بالكروت التذكارية ومجموعات الصور التي كان الأثرياء يرسلونها لذويهم من أماكن قضاءهم لأجازاتهم الشتوية في القاهرة والأفصر وأسوان وقد أدى هذا الإقبال إلى إنشاء شركات ومطابع لكروت البوستال مثل ليشتنشتين وهراري ومكتبة حورس ولهذه الأسباب فإن صوراً للمعالم الأثرية من الجو كانت بالتأكيد ستلاقي رواجاً  كبيراً  في هذه السوق المزدهرة وربما ما أغرى كوفلر أيضاً النجاح والشهرة والثراء الذي حققه سبليتريني بصوره التي كان يأخذها من المنطاد خاصة أن صوره للجيزة بالذات حققت نجاحاً هائلاً في المعارض التي عرضت بها في أوروبا لعل هذا هو مادفع كوفلر لأن يذهب إلى مطار هليوبوليس الذي كان  في تلك الفترة قبلة للطيارين المغامرين الذين كانوا يحاولون أن يقطعوا بالطائرات أطول مسافات ممكنة ويستقل طائرة فرنسية من طراز نيوبورت 4جي Nieuport VI G بقيادة الطيار مارك بونيير ليلتقط الصور الأولى لمجموعته فوق الجيزة وكان ذلك في الأول من يناير1914م وقد نشرت مجلة ايللستريشن الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 31يناير 1914م الصورة الأولى للأهرامات من الطائرة وكتبت تحتها صورة لأهرامات الجيزة من طائرة قادها الطيار مارك بونيير وقام بالتقاطها المصور ت. كوفلر والثابت أن كوفلر، الذي تتبع مجرى نهر النيل من الجيزة إلى الجنوب مستخدماً طائرة أخرى من طراز فارمان إتش إف20 Farman HF20 بقيادة لويس أوليفر مستكملاً مجموعته بتصوير معابد الأقصر والبر الغربي في مايو1914م لكن الأحداث المتواترة لم تمهل كوفلر أو تعطيه الفرصة ليستفيد بانجازه فبعد ذلك بأشهر قلائل حدث انقلاب في المناخ السياسي في العالم على خلفية مقتل أرشيدوق النمسا واندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى وعزل الخديوي عباس حلمي وتنصيب السلطان حسين كامل وإعلان مصر محمية للتاج البريطاني في ديسمبر1914م وما تترتب على ذلك من القبض على كل رعايا الدول المعادية وإعتبارهم سجناء حرب وترحيلهم إلى معسكر اعتقال حمل اسم سانت كليمنت بمدرسة فيردالا في مالطا  ولأن كوفلر كان حاملاً للجنسية النمساوية فقد تم القبض عليه وإيداعه المعسكر، وسجن مع كوفلر في المعتقل زملاء له في المهنة مثل كريستوف شولتز وارنست شولر بالإضافة إلى دانيال هيزنجر الذي اسندت إدارة المعسكر له ولكوفلر مهمة  التوثيق الفوتوغرافي للحياة داخل المعكسر والأنشطة المقامة فيه والثابت أن كوفلر قد أدار على هامش هذه المهمة عملاً تجارياً من بيع الصور للأسرى مما ساعده على تحمل تكاليف الإعاشة في نلك الظروف البائسة ، ومن أبرز أعمال كوفلر في تلك الفترة بورتريه شخصي رسمه لنفسه بألوان الجواش على ورق كهدية لسجانه الاسترالي "سالتر" عقب انتهاء فترة اعتقاله وقد لجأ كوفلر في رسمه للبورتريه الاسلوب الواقعي و الألوان القوية وإظهار ملامح وجهه القاطعة الحازمة الحادة .
 وأيضاَ كان المصور الألماني هاينز ليشتر الذي أصبح فيما بعد أحد مصوري خبيئة توت عنخ آمون1922م أحد زملاء كوفلر في معسكر الإعتقال وترجع أهمية هذه المعلومة في أنه على الأرجح أن ستوديو ليشتر بميدان الكرنك بالأقصر هو المكان الذي عثر فيه فاريللي على ألبوم كوفلر عندما استاجره  وما يؤكد هذه الفرضية العثور على ألواح عليها توقيع كوفلر في الاستوديو  الذي اكتشف مكانه مؤخراً ؛ وربما كانت الغيرة المهنية هي السبب الذي جعل ليشتر لا يأتي على ذكر كوفلر في مذكراته على الاطلاق ؛ وعقب إطلاق سراح كوفلر من معسكر الاعتقال في أبريل 1916م عاد إلى القاهرة ليمارس عمله في التصوير مرة أخرى  ويفتتح عدداً من الاستوديوهات آخرها ستوديو كوفلر 16شارع فؤاد "26يوليو حالياً" وقد ازدهرت مهنته في العشرينيات والثلاثينيات وأصبح أحد المصورين المشهورين لدى الطبقة العليا والحاكمة في مصر خاصة بالصور الملونة يدوياً ، كذلك كان مصوراً مفضلاً للصور التذكارية كحفلات التخرج والمناسبات العامة وأيضاً التقاط  صور الأبنية الرسمية والخاصة وظهرت صوره أحياناً على أغلفة المجلات والصحف مثل بورتريه شاه ايران الذي احتل غلاف مجلة اللطائف المصورة احتفالاً بزفافه على الأميرة فوزية فؤاد شقيقة الملك فاروق كما عمل أيضاً لدى العديد من المجلات الفرنسية ، وظل كوفلر يمارس التصوير حتى تقاعده عام 1950م  واستمر بعدها في إدارة الاستوديو الخاص به حتى تقاعده عام 1956م،  لكنه لم يغادر مصر إلا بعد العدوان الثلاثي 1956م  ليلحق بابنه الذي كان هو ايضاً وللمفارقة أسيراً لدى البريطانيين في الحرب العالمية الثانية واستقر بعد اطلاق سراحه في كينيا , وبعد ذلك وبالتحديد عام 1957م  لقي تيودور كوفلر مصرعه اثر سقوط الطائرة التي كانت تقله فوق بحيرة فيكتوريا في تنزانيا لتنتهي حياته الحافلة عند منابع النهر الذي صنع مجده وهو يوثق ضفافه ولتختم بهذا اسطورة تيودور كوفلر الرائد والسجين والمحترف الذي منح العالم بعدسته لمحة عن كيف كان شكل مصر وآثارها من السماء منذ أكثر من مئة عام .



























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق