الجمعة، 27 مايو 2016

المنظور الأمريكي لفلسطين (الأرض المقدسة) ... أبرياء في الخارج - دراستي بمجلة أوراق فلسطينية -خريف 2016



في مايو 2009م  وبعد أشهر فقط من تولي أول رئيس أسود مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأميركية قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بزيارته الأولى لساكن البيت الأبيض الجديد والذي حظي بشعبية كبيرة لدى الشارع العربي المتفائل بالرجل الذي كانوا يرون فيه مدافعاً عن حقوق المظلومين في العالم ووسط شائعات ملأت الأجواء بأنه غير راض عن السياسات القمعية التي تنتجها إسرائيل ضد الفلسطينيين وبأنه سيسعى لتغيير سياسات بلاده المنحازة دائماً وأبداً للصهاينة، ذهب نتانياهو واصطحب معه هدية للرئيس المنتخب هدية لم يوافق عليها غالبية مستشاريه ولم تكن هذه الهدية المختلف عليها أكثر من كتاب رحلات كتبه الروائي الأميركي الأشهر مارك توين عن مشاهداته خلال رحلته إلى أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر صدر في العام1869م بعنوان "أبرياء في الخارج" وكان سر إعتراض مستشاري نتانياهو أن الكتاب حفل بمشاهد وآراء عنصرية عن المسلمين والملونين وهو ما قد يثير حفيظة أوباما ويخلق أزمة دبلوماسية قد تسيء للعلاقات بين الحليفين ولكن نتانياهو كان مصراُ على الهدية وكان يعي جيداً أن أوباما سيفهم دلالاتها وللحقيقة فإن دلالة هذا الكتاب والذي يعد أكثر كتب الرحلات مبيعاً في تاريخ الأدب الأميركي وشكل جزئ كبير من رؤية وعقلية المواطنين الأميركيين تجاه العرب وما يجري في منطقتهم بعد الكتاب المقدس وكتاب ألف ليلة وليلة أو ما يعرف باسم الليالي العربية وهو أيضاً درة ما يعرف بإسم أدب الإمبريالية الثقافية وواحد من أهم نتاجاتها الكثيرة ،هدية أراد نتانياهو بها أن يذكر أوباما بأن الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي شراكة فكرية وليست مجرد شراكة تقوم على المصالح وأنها  شراكة تتعدى حدود أفكار الأشخاص لأنها تقوم على بنيان الدول وعلى منظومة بدأت منذ بداية القرن التاسع عشر عندما طرح بونابارت فكرة الدولة اليهودية للمرة الأولى وما تلا ذلك من بزوغ ثقافة الاستشراق التي حدد فيها الغرب هوية قياساً بالشرق كما قال إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الإستشراق" وكذلك حمى الأرض المقدسة والتبشير التي اجتاحت أمريكا بعد نهاية الحرب الأهلية وارتباط صعود الدولة الأمريكية بمملكة الله على الأرض في ذهن المواطن الأمريكي العادي هذه الروابط الثقافية هي ما أراد نتانياهو أن يذكر به أوباما بهذه الهدية بل ويضغط بها عليه أيضاً فلم تكن الثقافة يوماً قوة ناعمه كما يحلو للبعض أن يطلق عليها بل هي دوماً القوة الضارية الحقيقية وراء الجيوش والحروب بل وحتى مفهوم الرفاه الإقتصادي فقوة السيطرة على العقل هي القوة التي تحرك الحروب الجرارة وهي أيضاً القوة التي تلحم بنيان الدول لذلك كان الهدف الأساس للإمبريالية الثقافية السيطرة على عقول الشعوب الغازية وأعطاها شعور بأنها تحمل مشعل الحضارة والمدنية وأن لها أهداف نبيلة تتمثل في الخير والسلام والرخاء للإنسانية جمعاء.
أما الهدف الثاني للإمبريالية الثقافية فهو السيطرة على عقل الشعوب المحتلة عبر إنشاء نخبة ثقافية تعتنق أفكار وقيم الإحتلال أو تدجين النخبة الثقافية الموجودة بالعطايا المادية والمعنوية وإقناعها بأنها تساعد في نشر قيم الحضارة والحرية والمدنية بين أفراد الشعب لتساعدها هذه النخب في قولبة أفكار العامة فتصبح أكثر رضوخاً لفكرة هيمنة المحتل وتقوية الإحساس بأن ثقافتهم أقل شأناً وأنهم بحاجة للآخر المهيمن ليحققوا ازدهارهم وتقدمهم ،هذا الأسلوب لم يكن حديثاً بل هو قديم قدم الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية لكن عصر الثورة الصناعية وتقدم وسائل الاتصال والتكنولوجيا جعله يتخذ منحى أكثر قوة ووضوحاً في القرن التاسع عشر وتتعدد وسائله بدءً من المستشرقين والرحلات السياحية والاستكشافية وكتيباتها الإرشادية والأعمال الأدبية الروائية والشعرية والفوتغرافيا والأعمال الفنية والمعارض العالمية وبعثات التبشير وصولاً لليوم  وبعد عصور العولمة وثورة الإتصالات بالمذياع والتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب ......إلخ.
وكان الهدف هنا ليس مجرد تعريف الغرب بالشرق ولا حتى التواصل معه أو تحديد الهوية قياساً به فقط بل كان الهدف الأساس هو خلق بنية متكاملة من المعلومات والقوى التي تحدد مفهوم الشرق وما هو شرقي من المنظور الغربي ثم تقديمها للغربيين رؤية تعتمد على فكر الغرب أكثر مما تعتمد على حقيقة الشرق ،هذه الرؤية تعتمد على منظومة القيم والمعارف والأيدولوجيات الغربية في إطار العلاقة بين الشرق والغرب وطبقاً لهذا أصبحت الكتابات الغربية الاستشراقية كاشفة للقيم الغربية تجاه الثقافات الشرقية وليست راصدة لهذه الثقافات وهي النظرية التي تنطبق على الكتابات الأدبية الأمريكية عن الشرق بمقدار إنطباقها على الكتابات الأوروبية وهو ما لم تكن كتابات توين إستثناء عنه رغم أنها كتبت قبل أن يصبح الشرق الأوسط محل اهتمام إستراتيجي وإقتصادي للولايات المتحدة أو كما تقول الباحثة ميلاني ماكاليستر " أن الشرق الأووسط لم يكن في البداية إهتماماً أمريكياً بل كان ينبغي أن يصنع منه إهتماماً أمريكياً على المستوى الشعبي وهنا جاء دور المنتجات الثقافية التي ولدت لدى الرأي العام الشعور بوجوب الاهتمام الديني والإستراتيجي بهذه المنطقة البعيدة من العالم والتي أدت بدورها لمناقشة علاقة الشرق بالمسيحية واليهودية  والتباين والصراعات التاريخية والثقافية والقيمية بين سكان الشرق الحاليين والعالم الغربي عموماً وبهذا أصبح الشرق البعيد محل إهتمام القارئ الأمريكي العادي من خلال الخلاف أي أن الشرق قدم منذ البداية كثقافة معادية لقيم الحضارة الغربية وكان محل اهتمام من خلال هذا المنطلق".
نعم لم يكن الشرق الأوسط محل إهتمام كبير ربما حتى لفترة ما بعد الحربين العالمية  الأولى والثانية ولم يكن معروفاً جداً قبل منتصف القرن التاسع عشر بالنسبة للأمريكين لكنه لم يكن مجهولاً بالكلية أيضاً فالإتصالات الأمريكية الشرق أوسطية كانت موجودة منذ مرحلة ما قبل إستقلال الولايات المتحدة عن الإستعمار البريطاني كما شكلت ما يعرف بالحروب البربرية في الفترة من1801م إلى 1805م  عاملاً مهماً في خلق الهوية الأمريكية التي كانت نواة لإتحاد الولايات فيما بعد وذلك في أول تجربة عندما شكلت الولايات أسطولاً موحداً للحرب على شمال إفريقيا وربما كان هذا أول مراحل النظر إلى الشرق كثقافة معادية في وجدان الأمريكيين الأوائل ،أيضاً كان الشرق الأوسط هو الأرض المقدسة التي يحفظ الأمريكيين المتدينين تضاريسها من خلال الكتاب المقدس ورغم حظر السفر إلى الأرض المقدسة في أوائل القرن التاسع عشر كانت كتابات وأدبيات المبشرين والإرساليات البروتستانية مصدر للمعلومات والمعرفة لدى المواطن الأمريكي بالأراضي المقدسة وقاطنيها من العرب والأتراك ووسيلة لخلق مفهوم معين عن هذه الأرض عضدته رؤية مارك توين في كتابه "أبرياء في الخارج" أحياناً وخالفته في أحيان أخرى كثيرة ولم تقتصر المعرفة الأمريكية بالشرق على هذه المصادر بل عززتها أيضاً إعادة طبع منشورات وكتب لأوروبيين عن المنطقة كذلك مشاهدات ومذكرات لمهاجرين جدد شاركوا في حروب بلادهم القديمة ضد العرب والأتراك بالإضافة إلى إضطرار رؤساء الجمهورية المستنيرة المتحضرة الأوائل في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر لدفع الجزية لولاة الهمج كما أطلقوا عليهم في الجزائر وطرابلس وتونس مما عده الأمريكيين وصمة عار لطخت رؤسائهم العظام مثل جون آدم وتوماس جيفرسون وبهذا كان الموقف الأمريكي الأول تجاه الشرق الأوسط موقف عدائي لأسباب إقتصادية وسياسية في المقام الأول وعقدة بالتفوق كدولة متحضرة أمام كيانات همجية بغض النظر عن النشاط الأمريكي في إختطاف البشر من مناطق السواحل الأفريقية وبيعهم كعبيد في الولايات المتحدة !!! لقد آمن الأمريكيين الأول أنهم يمثلون قمة الحضارة الغربية التي هي قمة الحضارة والحداثة والتقدم في العالم ورأوا أن العرب لا يضاهوهم في تقدمهم ولا ديمقراطيتهم ولا حتى ثقافتهم وكرسوا في أذهانهم للتفوق الثقافي والمعرفي والقيمي الغربي أمام الدونية والجهل والطفولية الشرقية ولم تفلح اتفاقية التبادل الحر للملاحة والتجارة بين الولايات المتحدة والإمبراطورية العثمانية في تغيير هذا المفهوم بل على العكس عضد الإحتكاك التجاري المباشر من الفكرة المسبقة وقواها لأن الذاهبين إلى الشرق كانوا يطبقون فكرهم المقولب مسبقاً على كل ما فيه على العكس نما الآن في الوعي الأمريكي أن الإسلام دين معاد لقيم التقدم الغربية الأمريكية  ،فمعاملة العثمانيين وفكرهم وقوانينهم صورت في الذهن الأمريكي المتأثر بأفكار مفكرين جمهوريين كدوجلاس ليتل لم يرى في محمد إلا غاز أجبر أهل الجزيرة العربية والأفارقة على إعتناق منظومة من الأفكار الملتوية بحد السيف وان هذه الأفكار هي السبب الرئيس في تخلف الشرق كما وجد الأمريكين في كتابات فلاسفة أوروبيين مثل جان بودين ودينس ديدرو ومونتسكيو ما يعضد هذه الفكرة وهكذا دخل الدين مع السياسة في الرؤية الأمريكية وجاءت الحرب اليونانية التركية في العام1821م لترسخ مفهوم الخلاف الديني أكثر فأكثر بين الإسلام والولايات المتحدة خاصة مع الولع الأمريكي بما عرف بالفيليلينيزم Philhellenism والخلافة الأمريكية للديمقراطية الإغريقية هذه الفكرة التي كانت إحدى محركات حرب الإستقلال عن بريطانيا وأصبحت حتى يومنا هذا محدداً للصراع بين الغرب (الديمقراطي) والشرق الأوسط الدكتاتوري وبين الإسلام الرجعي والمسيحية المستنيرة مع هذا لم يرفض الأمريكين الشرق بالكلية رفضوا دينه وأناسه لكنهم لم يرفضوه كأرض فمازال الشرق هو موطن الديانة وحلقة الوصل مع الإله ولهذا كان الشرق المتخلف الجاهل مهماً لأسطورة إمبراطورية الله الأمريكية التي جمعت أعظم ما صنعه الإنسان ووضعه الله وبهذا اكتسب الشرق أهميته الإستراتيجية كونه ضرورة لإبقاء دعائم الإمبراطورية المتفوقة بتخلفه وكان لابد أن يصبح للدولة التي هي إسرائيل الجديدة ذلك الرابط مع إسرائيل القديمة التي تمثلها الأراضي المقدسة فرأى الأمريكيين البروتستانت البيوريتانيين أنه يجب أن تعكس إسرائيل القديمة الشكل الذي يحلمون به لإسرائيلهم الجديدة لتكتمل أسطورة الحلم الأمريكي بإمبراطورية الله على الأرض وهكذا أصبح للرحلات للأرض المقدسة في الحياة الأمريكية معنى جديد معنى يرتبط بالوجود الأمريكي نفسه هذا المعنى هو الذي جعل الرأي العام الأمريكي دائماً متحمساً لتغيير الشرق الذي يرفضه لشرق أكثر قبولاً من وجهة نظره وأكثر تماشياً مع أسطورة الإمبراطورية الأمريكية شرق يؤمن بقوة وقدرة القيم الأمريكية على حمل الكرامة الإنسانية والعدالة عبر العالم وقد حملت الإرساليات هذه القيم قبل أية وسيلة أخرى فقد أسست أول إرسالية أمريكية في الأراضي المقدسة في العام1821م تحت رعاية ليفي بارسونز وبليني فيسك وكان ممنوعاً عليها ممارسة العمل مع المسلمين طبقاً للقوانين العثمانية فاتجهت الإرسالية لممارسة نشاطها مع الأرمن والمارون والأرثوذكس على أمل أن يقنع هؤلاء مسلمي القدس بالتحول للمسيحية وبدأ إنشاء المدارس مثل مدرسة روبرت في إسطنبول والكلية السورية البروتستانتية التي تحولت بعد ذلك إلى الجامعة الأمريكية وفي غضون ثلاثين عاماً وبحلول العام1850م أصبح عدد البروتستانتيين  في الإمبراطورية العثمانية يعتد به مما دفع السلطات البريطانية وتحت ضغط أمريكي لأن تطلب من السلطان العثماني بأن يعترف بالبروتستانت كاحد مكونات الدولة، هذا النجاح الهائل لاقى صدى كبيراً في الولايات المتحدة بسبب النشرات التي كانت هذه الإرساليات تصدرها في الوطن الأم لتبين للجمهور تطور مراحله مما دفع المواطنين الأمريكيين لتقديم الدعم المادي والمعنوي والإيمان بأنه يمكن إنقاذ العرب من تخلفهم ومن حكم العثمانيين عن طريق هدايتهم للإنجيل وتعاليمه حتى أن القس ويليام تومسون راعي واحدة من أكبر هذه الإرساليات كتب كتاباً صدر في العام1859م بعنوان "الأرض والكتاب" وارسى فيه أسس هذه النظرية وباع مئتي ألف نسخة في الولايات المتحدة في وقتها وأعقب هذا الكتاب مئات من الكتب المماثلة التي تحدثت عن نفس النظرية ولاقت رواجاً هائلاً في مختلف الولايات كان الهدف الرئيسي من هذا الكتاب ومن بقية الكتب إرساء العلاقة الوثيقة بين الأرض المقدسة والكتاب المقدس وجعلها مفهوم واحد لا ينفصل في الذهنية الجمعية الأمريكية، هو مفهوم قواه أيضاً المؤلف الذي كتبه البروفيسور إدوارد ربينسون وهو أستاذاً للدراسات العبرية واليونانية عن رحلته للأراضي المقدسة في العام1838م عنونه باسم "أبحاث إنجيلية في فلسطين وجبل سيناء" وصدر في ثلاثة مجلدات في العام1841م  ضمنه دراسات تاريخية وجغرافية ونقدية ووصفية لتمنح القارئ والحاج المريكي رؤية أمريكية خالصة وخاصة به للأرض المقدسة ،لقد طابق روبنسون جغرافية المشهد الفلسطيني على وصف الكتاب المقدس برؤية بروتستانتية خالصة وفي مؤلفه هذا أعطى لبعض القرى العربية أسماء ومواقع ذكرت في الكتاب المقدس بدون أي دليل بحثي على صحة هذا وحدد بهذه الرؤية الجغرافية ما سوف يراه الحاج البروتستانتي وما سيتوقعه في الرحلات التالية خاصة أنه بنهاية الحرب الأهلية الأمريكية وانتشار استخدام السفن البخارية لم يعد السفر إلى الأراضي المقدسة مجرد حج و تبشير ديني بل أصبح أيضاً سياحة تدل على المكانة الإجتماعية والإنتماء للشرائح العليا من الطبقة المتوسطة والطبقات الأعلى وبهذا أصبحت تجربة زيارة الأرض المقدسة لها جوانب اجتماعية وليس مجرد زيارة دينية فأصبحت تجربة ذات جوانب عقلية وإستشفائية وبحثية بالإضافة إلى كونها تجربة تطهيرية دينية وتواصل مع الجذور الأولى للديانة كما أصبح السائح أكثر إهتماماً بالجوانب الثقافية للشعوب الأخرى ويرى في السياحة جانباً تعليمياً وإثراءً معرفياً يرتبط بكون الشخص ينتمي لطبقة رفيعة هذه الطبقة كان جل إهتمامها المادة والجوانب المادية للرحلة أي الحصول على أقصى استفادة من الأموال التي دفعوها كذلك كان الإهتمام بإستعمال أكبر قدر من المخترعات العلمية والوسائل الحديثة وقد أدى هذين الاهتمامين لكثير من التغيرات في الأرض المقدسة فتم التوسع في إنشاء الفنادق ووسائل الترفيه ومتطلبات السياحة الفارهة كما ظهرت مهنة المرشد السياحي الذي كان من أبناء البلد وحل محل القس ولكن هذا لم يغير من حقيقة أن السائح كان مازال يبحث عن الصورة الذهنية المسبقة على الأرض ويسعى لإثبات ما قرأه من خلال المعايشة فأصبح البشر والطبيعة في مخيلة السائح كمعرض كبير يستعين لفهم المعروضات المعروضة فيه بالشروحات والتجارب السابقة عليه أي أن التجربة الشرقية في عين الأمريكي تغيرت كثيراً عن مجرد الحج ولكن المحصلة والنتيجة ظلت واحدة فقط أضيف للبعدين السابقين لصورة الشرق الأوسط في الذهنية الأمريكية البعد السياسي والبعد الديني بعد جديد ألا وهو البعد الإقتصادي الإجتماعي المتمثل فيما عرف بسياحة الحج كدليل على الثراء والمركز الإجتماعي ، ولمواكبة السياحة كان لابد من وجود نصوص تختلف عن القصص الديني والكتب التبشيرية والليالي العربية لتتناسب مع الوافد الجديدي للشرق الأوسط رغم أن هذه الكتابات الأولية كانت بمثابة المحفز الأولي للذهن الأمريكي تجاه الشرق الأوسط وهي أيضاً مازود العقل الأمريكي بالمفاهيم الثقافية اللازمة لإستيعاب كتاب "أبرياء في الخارج" والذي كانت شركات السياحة الأمريكية توصي مسافريها بالحصول على نسخة منه بالإضافة لكتب أخرى و للحصول على فهم أعمق لفلسطين ،فما الذي جعل هذه الأهمية لكتاب توين والتي جعلته محط الأنظار حتى يومنا هذا؟؟!
قبل توين كانت الكتابات غالباً ما تتحدث عن فقر العرب وتدهور أحوالهم كدلالة على دونيتهم وتختلط فيها تجارب السياح الشخصية مع حكايات سمعوها وقصص من الكتاب المقدس وأساطير عن الحروب الصليبية ومغامرات فرسانها مع العرب الهمج فجاءت كتابات من من كتبوها متطابقة إلى حد كبير لأنها أتت من نفس الخلفية حتى أن توين كتب منتقداً هذه الكتب قائلاً "بإمكاني أن أذكر لك بالنص ما كتبوه عما رأوه في طبرية والناصرة وأريحا والقدس لأن لدي الكتب التي إستقوا أفكارهم منها" وهذه الكتب بالفعل شكلت القالب الذي وضعه السائح الأمريكي في مخيلته للأرض المقدسة ولم يكن المسافر ما بالك بالقارئ ليجرؤ على  التفكير في أن واقع الشرق قد يكون مختلفاً عما كتبه هؤلاء الأوائل ولذلك فسواءعاين ذلك المسافر المظاهر الثقافية للأراضي المقدسة على الطبيعة أو قرأ عنها في الكتب فإنه يقوم بتحديدها طبقاً للكتابات والنظريات والآراء المسبقة التي وضعت ،ثم جاء توين ورفض هذه الكتابات التي نعتها بالرومانسية والخيالية وسخر منها ولكنه أيضاً ورغم هذه السخرية أعطى للقارئ الأمريكي رؤية جديدة للعرب والشرقيين إتفقت مع سابقاتها في إظهار الشرقيين كجهلة وقذريين ومتخلفين وأختلفت معها في إدعائه أنها قائمة على الواقع دون مبالغة ولا إسقاطات دينية عقائدية لكن الحقيقة أن واقعية توين كانت جاهلة وإنطباعية لأنه زعم تقديمه لصورة حقيقية لأرض وثقافة وأناس لم يتواصل معهم ولم يكن يتكلم لغتهم ورآهم من منطق كلمة ( بقشيش ) مجرد شحاذين فكانت واقعيته غير صادقة لأنها اعتمدت على ترجمته هو لما رآه وليس التوصل لحقيقة ما حوله، فعلى سبيل المثال لم يخرج توين عن الرأي الأمريكي المعادي للإسلام ولكنه أرجع هذه العداوة لأسباب إدعى فيها أن الإسلام ضد التقدم والمدنية وانه عقيدة تدعو للقدرية وتكرس للرضا بالعبودية ونفى تماماً أن يكون العداء بسبب إنحيازه للمسيحية وكان صادقاً في هذه لأنه انتقد الكاثوليكية أيضاً لنفس الأسباب ،ما فهمه توين عن الإسلام هو أنه دين يدعو إلى تحمل شظف العيش والإساءة في هذه الحياة على أمل الحصول على الراحة والرفاهية بعد الموت لهذا رأى فيه دين يدعو إلى التأخر ويمنع معتنقيه من أن يكونوا أفراداً فاعلين في هذا العالم ولكنه كان أكثر تسامحاً من معظم معاصريه عندما دعا إلى تغيير ذلك من خلال إطلاع الغربيين للمسلمين على أفكارهم ومحاولة تغيير نمط حياتهم ومعتقداتهم ليتناسبوا أكثر مع العالم المتقدم وهي الرؤية التي ربما مازال الغرب يحاول تطبيقها في الشرق الأوسط حتى يومنا هذا.
لم يرى توين في عرب سوريا وفلسطين غير القذارة والجهل والمرض حتى حيوانتهم رآها قذرة ومريضة ومقاهيهم وحماماتهم عفنة ووصف الأحلام والقصص التي تروجها الكتب والكتيبات السياحية بأنها خدعة كبيرة وأن السياحة في الشرق ماهي إلا عملية نصب منظم على الأمريكيين المتقدمين العظماء فخر المدنية والنظافة والنظام في العالم الحديث ولكنه عاد فأكد أن العرب أيضاً جنس طيب يتميز بالذكاء والسماحة إن توفرت له ظروف التعليم المناسب والعيش بحرية وعدالة أما في حالتهم هذه فهم أقرب للدواب منهم للبشر أو على حد قوله "إنهم لا يعترضون على القذارة ولا الأسمال والعبودية ولكنهم يحبون أن يكونوا أنقياء وأطهار أمام إلههم" وكان الحل من وجهة نظره لمأساة العرب هذه أن تقوم روسيا بغزو الإمبراطورية العثمانية لتخلص العرب من معاناتهم وهو رأي غريب من رجل كان من أهم دعاة الحركة المضادة للإمبريالية وإن كان رأيه أن هذا لا يتعارض مع ذاك فلا بأس من تدخل عسكري محدود لقوى كبرى لتخليص الناس من معاناتهم وبهذا المنطق ساند توين أمريكا في حربها مع أسبانيا على كوبا في العام1898م ، وبهذا الطرح مهد توين للجمهور الأمريكي الإهتمام بحاضر فلسطين ليس لمجرد كونها مزار ديني وموطن للإنجيل بل لكونها أيضاً مسكن لأناس بحاجة للحاق بركب التطور والمدنية حتو ولو بالقوة إن كانوا يريدون تحقيق نبوءة مملكة الله فعلاً فعليهم أن يكونوا فاعلين في إلحاقها بركب المدنية والتطور وليس مجرد الحج لها ومشاهدة معالمها أي أنه عندما هاجم الطرح الرومانسي لفكرة الأرض المقدسة لصالح طرح أكثر واقعية كما يقول لم يكن برفض الفكر الديني بل كان يريد أن يتم ممارسته بشكل فاعل مواكب للعصر وهنا يظهر أن توين كان من الأوائل الذين ساهموا في توجيه إهتمام الرأي العام اللأمريكي لمناطق كانت خارج إهتماماتهم العادية فعين المواطن العادي كانت دائماً نحو ما يجري في أوروبا من منطلق المصالح المشتركة مع الأوطان الأم لكن توين أعطاهم الآن ما أطلقوا عليه مثال لمنظور غربي رائد تجاه الشرق يدعم فكرة تفوقهم وما دعم هذه الفكرة أكثر وجعل لها شعبية أكبر في أوساط الأمريكين أناه لم تأني من أحد النخب أو الأثرياء بل جاءت من صحفي ينتمي للطبقة المتوسطة في وسط أمريكا ميسوري بالتحديد وأنها جاءت واقعية تخلو من رومنسيات النخبة والمتأثرين بأفكار مفكري القارة القديمة على الرغم من أن الأفكار التي كتبها توين لم تختلف في مضمونها عن أفكار الأمريكيين الأوائل ومن أنه أخضع الشرق الأوسط لنفس القالب الجاهز الذي تشكل عبر عقود لهذا كان "أبرياء في الخارج" هو الهدية المناسبة بكل المقاييس لإهدائها من نتانياهو لأوباما فهو خلاصة الفكر الثقافي الأمريكي الخاطئ تجاه الشرق الوسط والذي تطور عبر عقود من سوء الفهم والأحكام المنحازة للتفوق الغربي وللنظرية الإستعمارية، واليوم وفي نهاية الفترة الثانية والأخيرة من حكم أوباما يبقى الوضع على ماهو عليه ويبقى شعار السياسة الأمريكية الخالد "نحن ملتزمون بامن إسرائيل" وتظل الخارجية الأمريكية تردد جملتها الشهيرة "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها" لأن الثقافة الأمريكية بنيت على أن وجود إسرائيل  ضرورة وانها سفيرة أمريكا للمدنية والحرية والتقدم في أرض لم تتغير منذ زيارة مارك توين لها.


المراجع:
1-    شذى يحي – مارك توين عراب أسطورة أرض الميعاد – مجلة الهلال – عدد نوفمبر2015م
2-The Romance of the Holy Land in American travel writing (1790- 1876) - Brian Yothers –Ash Gate e-Book2007 –Burlington .USA
3-Cultural contact and cultural change Colonialism and Empire – Anne Marie Carsten's  
4-Anglo- American Orientalism's – Contribution to the rise of Area studies 
المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات –عبد الفتاح نعوم – ورقة بحثية أبريل2015م
5-The Orientalist reality, tourism and photography – Tessa Handa –Duke University 2012
6-The traveling and writing self –Marguerite Helmers and Tilar Mazzeo – Cambridge Scholar publishing 2007
7- American Palestine:  Mark Twain and touristic commodification of Holy Land –Hilton Obenzinger  – working paper
8- American Palestine: Melville, Twain, and the Holy Land mania - Hilton Obenzinger 1999 –Princeton University Press
9- Unlearning great many things: Mark Twain, Palestine and American perspectives on the orient – Christopher Hyde – Trinity College 



توماس كوك للرحلات ... إمبريالية على ضفاف النيل - مجلة الهلال عدد أبريل 2016



"مصر الآن محتلة من قبل جيشين الجيش الأول هو عساكر الجيش البريطاني والثاني هم رجال توماس كوك وولده" للوهلة الأولى تبدو هذه الكلمات التي كتبها السير جورج نيونز في العام 18899م واصفاً الدور والنفوذ السياسي لشركة توماس كوك للرحلات في مصر متضمنة قدراً كبيراً من المبالغة لكنها الحقيقة التي ربما لم تراود توماس كوك نفسه، فالواعظ المعمداني السابق الذي كان قد ترك الوعظ واحترف صناعة الخزائن الخشبية في منطقة ليشستر واشتهر بإيمانه الكبير بعظمة الإختراعات العلمية وكرهه للخمور والكحوليات لم يحلم يوماً بحقيقة أنه سوف يصبح واحداً من أهم أعمدة الإمبريالية الثقافية في القرن الثامن عشر وأن الشركة التي سوف يؤسسها ستغير مصائر شعوب وتتحكم في مقدرات دول على الرغم من أن بدايات عمله المتواضعة  لم تكن تبشر بذلك كله ، كانت البداية في 5يوليو 1841م حين بدأت شركة توماس كوك رحلاتها برحلة غير هادفة للربح بالقطار من ليشستر إلى لافبروج نقل فيها كوك البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً مجموعة من المتعافين من إدمان الكحول لحضور تجمع احتفالي  وتمت هذه الرحلة في القطار البخاري الذي كان اختراعاً ضخماً في تلك الفترة ولثلاثة أعوام تلت هذا التاريخ نظم كوك رحلات من ليشستر إلى نوتنجهام وبرمنجهام وليفربول وعن طريقه استطاع الآلاف تجربة وسيلة المواصلات الجديدة واقتنعوا بها ،ظلت رحلاته الأولى مجرد خدمات اجتماعية غير هادفة للربح  لجمعيات الإدمان وأعضاء مدارس الأحد حتى العام 1845م عندما نظم أولى رحلاته إلى ليفربول وتضمنت هذه الرحلة تذاكر مخفضة للركاب وكتيب من ستين صفحة يتضمن تفاصيل الرحلة وارشادات السفر وكان هذا الفكر سابقاً لعصره في تلك الفترة وبحلول العام1850م استطاع كوك تنظيم رحلات إلى أغلب مدن أوروبا والولايات المتحدة وأيضاً للأراضي المقدسة في فلسطين وشهد هذا العام أول تعاون على مستوى عالي مع المسؤولين البريطانيين عندما نظم رحلات نقل للمواطنين من كافة أنحاء انجلترا للمعرض العالمي الأول في التاريخ الذي أقيم بكريستال بالاس لينقل أكثر من مئة وخمسين ألف فرد إلى المعرض كما أصدر جريدة غطت نشاطه وكانت بمثابة دعاية للمعرض، استمرت نجاحات شركة كوك بعد هذا التاريخ وأصبح كوك معنياً بتقديم خدماته للطبقة المتوسطة العليا المهتمة بالسفر الفاخر بقطارات الدرجة الأولى حتى 1869م وهو العام نفسه الذي بدأت فيه علاقته بمصر وبالرحلات النيلية على متن السفن البخارية ،عندما بدأ كوك نشاطه في مصر لم تكن الرحلات النيلية أمراً مجهولاً لدى الأوروبيين بل على العكس كان السفر إلى مصر ومشاهدة معالمها من السفن في عرض النيل صرعة كبيرة الرواج في تلك الفترة ومنذ نهاية الحملة الفرنسية خاصة بين رجال وسيدات الطبقة المتوسطة العليا والطبقات الراقية وكانت الرحلة الواحدة تستمر لحوالي ثلاثة أشهر في سفن شراعية مسطحة تسمى الذهبيات كانت تحمل السائحين الأجانب في رحلة شاقة عبر النيل من القاهرة حتى أسوان لمشاهدة معالم الحضارة العريقة على ضفتي النهر بحثاً عن آثار العهد القديم ورحلة العائلة المقدسة أو بحثاً عن المغامرة والمتعة وأحياناً كحالة الرحالة أماليا إدواردز وغيرها من بعثات لاستكشاف آثار ومقابر ومعابد جديدة فقد كان التنقيب على الآثار قد أصبح هواية لنبلاء أوروبا في تلك الفترة وكان المسافرين يدونون مذكراتهم ومشاهداتهم المصحوبه باسكتشات بدائية للآثار والسكان المحليين ويرسلونها لأقاربهم بالإضافة للأثر الروحاني للرحلة عليهم وقد قام بعضهم بنشر هذه الرسائل في كتب لتقوم مقام الدليل للمسافرين الآتين بعدهم وكانت الدهبيات وكافة وسائل الإعاشة والإمدادات ملك شخصي لحاكم مصر واحتكاراً خالصاً له إذاً فقد كانت الرحلات النيلية رائجة قبل كوك وكذلك كانت سياحة الأفواج قد بدأت في مصر وفلسطين على يد منظم رحلات يدعى هنري جايز ولكن على نطاق ضيق جداً سبق ذلك ظهور كتب إرشادية عن الرحلات النيلية في العام 1843م والعام1847م كدليل موري للمسافرين إلى مصر والذي أعده جون جاردنر ويلكينسون لكنها أيضاً لم تلقى رواجاً كبيراً واستمر المسافرين للأراضي المقدسة يعتمدون في معلوماتهم على الكتاب المقدس وكتاب ألف ليلة وليلة وخطابات من سبقوهم لكن توماس كوك نجح في تغيير كل ما سبق فكيف فعل ذلك؟؟
في البداية وفي العام 1868م سافر كوك في رحلة لاستكشاف الإمكانات الإقتصادية والخدمية للمنطقة واشتملت رحلته على مدن القسطنطينية بيروت يافا فالإسكندرية ثم القاهرة ليتفقد وسائل المواصلات والفنادق ودرجة الأمان وأيضاً التكاليف والأرباح المتوقعة للرحلات بعدها قام بعمل حملة دعائية كبيرة عبر أوروبا للترويج للرحلة وبدأ في قبول مقدمات حجز للرحلة ليبدأ بهذا الخطوة الأولى لهيمنته على سوق الرحلات النيلية هذه الهيمنة التي استمرت لثلاثة أرباع القرن ،وفعلاً قام كوك بالرحلة مع مجموعة من 30مسافراً من الرجال والنساء وقام برحلته النيلية على متن سفينتين بخاريتين هما بنها وبني سويف إستأجرهما من شركة العزيزية المملوكة للخديوي إسماعيل كلاهما صنعتا في بريطانيا وكانتا تستخدمان لنقل الركاب مرة شهرية من الأقصر إلى القاهرة والعكس في الفترة من فبراير لنوفمبر من كل عام ولكن لم يتم استعمالهما للأفواج السياحية قبل تأجير كوك لهما وكللت الرحلة التي قادها كوك بنفسه بنجاح غير عادي أشعل رغبة كوك في أن يسيطر على سوق السياحة النيلية بأكملها ودفعه لأن يتخذ خطوة أكثر جرأة بعدها بستة أشهر ففي صيف 1869م أعلن مكتب كوك في لندن عن نيته لتنظيم رحلة لحضور مراسم افتتاح قناة السويس في نوفمبر وفي هذه المرة لم يستطع كوك أن يتفق مع أية شركة عبر المتوسط ولكنه في النهاية استطاع أن يحجز أماكن على السفينة البخارية "أمريكا" والتي كانت جزأ من الأسطول الذي سوف يبحر في القناة يوم الإفتتاح وحضر كوك الإحتفالات القناة وسجل في ملاحظاته "أنها ربما تكون العلامة الفارقة الأبرز في تاريخ عمله بالسياحة" ،وبعد إنشاء القناة ازدهر عمل كوك السياحي بالفعل حتى أنه بعد هذا التاريخ بأقل من ثلاث أعوام قام بأول رحلة لشركته حول العالم عبر سكة حديد أمريكا من الشرق إلى الغرب ثم اليابان فالصين فسريلانكا والهند عائداً إلى مصر عبر القناة في طريقه إلى أوروبا ليستعرض المسافر أغلب منجزات عصر الثورة الصناعية بالمحرك البخاري فكان إعلان كوك عن هذه الرحلة حتى قبل القيام بها ملهماً لجول فيرن ليكتب روايته الشهيرة " حول العالم في ثمانين يوماً " والتي نشرت في العام1872م أيضاً ، كذلك ازدهر العمل في مصر والتي حرص كوك الإبن هذه المرة بحلول عام1871م على أن تكون شركة كوك الناقل النيلي الوحيد فيها باستعمال سفن البخار بالإتفاق مع الخديوي إسماعيل وأصبحت رحلات كوك النيلية ذات شعبية هائلة حتى أن أي مسافرأمريكي إلى أوروبا لم يعد يجرئ على العودةإلى بلاده ومواجهة أصدقائه قبل أن يذهب لمصر ويقوم برحلة على النيل على حد ما كتب روبرت إتيزنبرجر في العام1872م وواكب هذه السيطرة إصدار شركة كوك سلسلة كتب مصورة للمسافرين بدءاً من العام1875م-1876م بعنوان " على النيل بالبخار " حفل الكتيب بالصور الفوتوغرافية التي صورت أشكال الحياة على ضفتي النهر من منطلق ثقافة العالم في المعارض التي كانت رائجة في تلك الفترة كما أظهر سحر وفخامة الإقامة على السفن النيلية ،فأصبحت الرحلات النيلية مرتبطة في أذهان الأوروبيين بشهر العسل الذي قضاه أنطونيو مع كليوبترا أو بالبحث عن الشباب والجو الصحي الجاف البعيد عن برد أوروبا وبالإجازات السعيدة والأنشطة الترفيهية حيث قام كوك بتأجير بعض الدهبيات كأماكن للحفلات وكصالات للرقص وكأنها رحلة في الماضي أما الإقامة على السفن البخارية فهي إقامة في المستقبل ،ومع تعاظم نفوذ شركة توماس كوك الإقتصادي وارتباطها بعلاقات خاصة مع الخديوي والعائلة الحاكمة أصبح هناك الآلاف من المواطنين المصريين يعملون مع الشركة بشكل مباشر وغير مباشر وزاد من تعاظم هذا النفوذ حصول الشركة على حق الملاحة وراء الشلالين الأول والثاني وعبر وادي حلفا فأصبحت شركة كوك تؤمن الإعاشة للمزارعين وأصحاب الحرف ولمدن وقرى كاملة على ضفاف النهر وأيضاً لعدد كبير من الأفراد في بورسعيد والإسماعيلية والسويس خاصة بعد استئجارها  لسلاسل من الفنادق في هذه الأماكن وفي القاهرة أيضاً وحازت الشركة على ثقة الكثير من المصريين الذين وجدوا فيها شريكاً عادلاً على عكس الأسرة الحاكمة لذلك وعند قيام الثورة العرابية في العام1882م لميتم المساس بأي من أملاك شركة كوك في كل مدن مصر بل وأصبح لشركة كوك من النفوذ ما يجعلها تصدر بياناً أثناء الثورة نص على "إن الإنجليز ليس لديهم أية نية لحكم هذا البلد بل على العكس نحن نتمنى لكم كل ازدهار وأن تحظوا بحكم رشيد وإننا على استعداد تام في هذه الظروف لأن نمد من يحتاج منكم بمبالغ كبيرة من النقود الإنجليزية عبر وادي النيل كله" وهنا كشفت الشركة عن وجهها الاستعماري القبيح فقد أصدرت الشركة هذا الإعلان ومدافع ويلسلي تدك الإسكندرية ومراكبها تنقل الجرحى والمصابين الإنجليز للعلاج من الإسكندرية إلى لندن وقبلها بالقطارات من القاهرة ،ولم تكتفي الشركة بذلك بل أرست دهبية في المياه العذبة لترعة الإسماعيلية لتكون مقراً لقبادة الجيش البريطاني خلال المعارك ونظمت عدداً كبيراً من الرحلات النيلية المجانية للجنود البريطانيين بعد انتهاء القتال وأيضاً استضافت الكثير من أقطاب الصحافة البريطانية الذين غطوا المعارك مما دفع بالجيش البريطاني لتوجيه أقصى درجات الشكر والامتنان للشركة باسم ولي العهد على الترتيبات الرائعة التي قمتم بها وكانت ذات فائدة كبيرة في تحقيق النصر .
وبعد انتهاء ثورة عرابي بعام توثقت العلاقة بين الشركة والحكومة البريطانية أكثر بعد قيام ثورة المهدي في السودان فقد قامت الشركة بإخلاء المسؤولين البريطانيين وأسرهم من الخرطوم وتوفير السفن النيلية لنقل الجنود وإخلاء الجرحى والمصابين بل إن شركة كوك قد استجابت للحكومة البريطانية في العام1884م وأوقفت كل نشاطاتها في الرحلات لتكرس سفنها بالكامل لخدمة الجيش البريطاني واستمر الإيقاف حتى موسم 1886م وهكذا نقلت كوك 18ألف جندي وأربعين ألف طن من المعدات حتى وادي حلفا باستخدام أسطول الشركة المكون من سبعة وعشرين مركباً بخارياً وستمائة وخمسين مركباً شراعياً وبالاستعانة بخمسة آلاف موظف من موظفين الشركة وقد دمرت العديد من مراكب الشركة بشكل لا يمكن إصلاحه أثناء النقل ومع ذلك استمرت الشركة في مساعدة الإحتلال بكل شكل ممكن ولم يمنع هذا شركة كوك من التفكير في الأرباح فسافر كوك الإبن بذهبية سودانية مستأجرة إلى دنجلة بعد وادي حلفا لاستطلاع إمكانيات الإبحار هناك كذلك نظمت الشركة رحلة لآرثر كونان دويل مؤلف شيرلوك هولمز لوادي حلفا في العام1896م رغم أن أغلب السودان كان قد أصبح في أيدي المهديين في تلك الفترة وكتب دويل إحدى رواياته الشهيرة مستوحياً هذه الرحلة وكان عنوانها "مأساة كورسوكو" ،وبنهاية الحرب في السودان كان الأسطول المستأجر من الحكومة المصرية الذي تستعمله شركة كوك قد دمر تماماً وكانت الفرصة سانحة للشركة لكي تبني أسطولها الخاص بعد كل الخدمات التي قدمتها للإمبراطورية وهكذا قرر جون كوك ابن توماس أن يبني أسطوله الخاص والذي وصفه بأنه مجموعة من القصور العائمة وأنه سيكون أعظم من أي مركب سبح فوق مياه النهر العظيم منذ عصر كليوبترا وأصدر كوك كتيب رحلات جديد مصور فوتوغرافياً في العام1890م وقد اكتسحت شعبية هذا الكتاب الذي كان عنوانه نصائح للمسافرين في مصر أوروبا لدرجة أنه طبع إثنا عشر مرة في الفترة من تاريخ إصداره وحتى1912م وبنهاية القرن التاسع عشر كانت كتيبات كوك قد تضاعفت وتضاعف عدد المسافرين بعد الدعاية الكبيرة والسفن الأكثر فخامة والذهبيات المطورة وأصبحت رحلات الخريف إلى مصر للأغنياء والطبقة العليا ضرورة ثقافيه وإجتماعية لابد منها ودليل على العصرية والتحضر ،هكذا اكتظت فنادق القاهرة بسائحي شركة توماس كوك وولده وتوطدت علاقة جون كوك أكثر وأكثر مع الخديوي عباس حلمي مما دفع الأخير لمنح الشركة تسهيلات أكثر لكن الصداقة الأمتن جمعت بين كوك واللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر وبهذا سيطرت شركة كوك بالكامل على كل شيء في مصر وهذه الحقيقة أوردتها مجلة بلاك وودز الأمريكية بعددها الصادر في أغسطس1889م حيث كتب محررها بالحرف " ببساطة كوك تملك مصر " ،ولهذا وبالتأكيد لم يكن نيونز مخطئاً في تصريحه فبنهاية القرن التاسع عشر وبحلول بدايات القرن العشرين كان المبشر صانع الخزائن وولده لاعبين مهمين في لعبة السياسة الاستعمارية البريطانية في مصر بل وعنصرين مؤسسين في مشهد الإمبريالية الثقافية الأنجلو سكسونية على مستوى العالم ،فتوماس كوك ونظيرتها شركة الهند الشرقية البريطانية في شبه القارة الهندية وشركات ومؤسسات تجارية وسياسية وثقافية وترفيهية وسياحية تماثلهما مجرد واجهات للهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب بدعوى جلب التقدم والإزدهار والحريات والشعارات الإنسانية هذه اللعبة لم تتغير منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن وبعد مرور أكثر من عقد ونصف من القرن الواحد والعشرين اختلفت الأزمنة والوجوه والأسماء ولكن لم تختلف الأهداف فدائماً ما يكون الإستعمار الثقافي والهيمنة الاقتصادية أقوى وقعاً وأشد أثراً من مدافع الأساطيل وسيطرة الجيوش.




 












صورة لدهبية التقطها فراند ماسون 1860م – والدهبية هي مركب ذو غاطس ضحل و قاع مسطح  - كان يبنى  بأسلوب السفن التي استخدمها السلاطين المماليك في القرن ال13

غلاف أحد أعداد مجلة كوك هو عدد تذكاري بناسبة مرور 16 عام على إنشاء الشركة بتاريخ ديسمبر 1888م والتي أصدرها لأول مرة 1851م لتغطية المعرض العالمي الأول

غلاف الكتالوج الدعائي لأحد رحلات كوك حولة العالم والتي كان من أهم وأبرز معالمها  زيارة مصر والرحلة النيلية وزيارة معرض شيكاغو في أمريكا

صورة نادرة لمراكب بخارية على ضفاف النيل حوالي عام 1867م وهناك إحتمال كبير لأن تكون هذه المراكب هي التي إستأجرها كوك من شركة العزيزية
 
غلاف أحد أعداد مجلة كوك بتاريخ 27مايو1899م والتي أصدرها لأول مرة 1851م لتغطية المعرض العالمي الأول