الجمعة، 27 مايو 2016

توماس كوك للرحلات ... إمبريالية على ضفاف النيل - مجلة الهلال عدد أبريل 2016



"مصر الآن محتلة من قبل جيشين الجيش الأول هو عساكر الجيش البريطاني والثاني هم رجال توماس كوك وولده" للوهلة الأولى تبدو هذه الكلمات التي كتبها السير جورج نيونز في العام 18899م واصفاً الدور والنفوذ السياسي لشركة توماس كوك للرحلات في مصر متضمنة قدراً كبيراً من المبالغة لكنها الحقيقة التي ربما لم تراود توماس كوك نفسه، فالواعظ المعمداني السابق الذي كان قد ترك الوعظ واحترف صناعة الخزائن الخشبية في منطقة ليشستر واشتهر بإيمانه الكبير بعظمة الإختراعات العلمية وكرهه للخمور والكحوليات لم يحلم يوماً بحقيقة أنه سوف يصبح واحداً من أهم أعمدة الإمبريالية الثقافية في القرن الثامن عشر وأن الشركة التي سوف يؤسسها ستغير مصائر شعوب وتتحكم في مقدرات دول على الرغم من أن بدايات عمله المتواضعة  لم تكن تبشر بذلك كله ، كانت البداية في 5يوليو 1841م حين بدأت شركة توماس كوك رحلاتها برحلة غير هادفة للربح بالقطار من ليشستر إلى لافبروج نقل فيها كوك البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً مجموعة من المتعافين من إدمان الكحول لحضور تجمع احتفالي  وتمت هذه الرحلة في القطار البخاري الذي كان اختراعاً ضخماً في تلك الفترة ولثلاثة أعوام تلت هذا التاريخ نظم كوك رحلات من ليشستر إلى نوتنجهام وبرمنجهام وليفربول وعن طريقه استطاع الآلاف تجربة وسيلة المواصلات الجديدة واقتنعوا بها ،ظلت رحلاته الأولى مجرد خدمات اجتماعية غير هادفة للربح  لجمعيات الإدمان وأعضاء مدارس الأحد حتى العام 1845م عندما نظم أولى رحلاته إلى ليفربول وتضمنت هذه الرحلة تذاكر مخفضة للركاب وكتيب من ستين صفحة يتضمن تفاصيل الرحلة وارشادات السفر وكان هذا الفكر سابقاً لعصره في تلك الفترة وبحلول العام1850م استطاع كوك تنظيم رحلات إلى أغلب مدن أوروبا والولايات المتحدة وأيضاً للأراضي المقدسة في فلسطين وشهد هذا العام أول تعاون على مستوى عالي مع المسؤولين البريطانيين عندما نظم رحلات نقل للمواطنين من كافة أنحاء انجلترا للمعرض العالمي الأول في التاريخ الذي أقيم بكريستال بالاس لينقل أكثر من مئة وخمسين ألف فرد إلى المعرض كما أصدر جريدة غطت نشاطه وكانت بمثابة دعاية للمعرض، استمرت نجاحات شركة كوك بعد هذا التاريخ وأصبح كوك معنياً بتقديم خدماته للطبقة المتوسطة العليا المهتمة بالسفر الفاخر بقطارات الدرجة الأولى حتى 1869م وهو العام نفسه الذي بدأت فيه علاقته بمصر وبالرحلات النيلية على متن السفن البخارية ،عندما بدأ كوك نشاطه في مصر لم تكن الرحلات النيلية أمراً مجهولاً لدى الأوروبيين بل على العكس كان السفر إلى مصر ومشاهدة معالمها من السفن في عرض النيل صرعة كبيرة الرواج في تلك الفترة ومنذ نهاية الحملة الفرنسية خاصة بين رجال وسيدات الطبقة المتوسطة العليا والطبقات الراقية وكانت الرحلة الواحدة تستمر لحوالي ثلاثة أشهر في سفن شراعية مسطحة تسمى الذهبيات كانت تحمل السائحين الأجانب في رحلة شاقة عبر النيل من القاهرة حتى أسوان لمشاهدة معالم الحضارة العريقة على ضفتي النهر بحثاً عن آثار العهد القديم ورحلة العائلة المقدسة أو بحثاً عن المغامرة والمتعة وأحياناً كحالة الرحالة أماليا إدواردز وغيرها من بعثات لاستكشاف آثار ومقابر ومعابد جديدة فقد كان التنقيب على الآثار قد أصبح هواية لنبلاء أوروبا في تلك الفترة وكان المسافرين يدونون مذكراتهم ومشاهداتهم المصحوبه باسكتشات بدائية للآثار والسكان المحليين ويرسلونها لأقاربهم بالإضافة للأثر الروحاني للرحلة عليهم وقد قام بعضهم بنشر هذه الرسائل في كتب لتقوم مقام الدليل للمسافرين الآتين بعدهم وكانت الدهبيات وكافة وسائل الإعاشة والإمدادات ملك شخصي لحاكم مصر واحتكاراً خالصاً له إذاً فقد كانت الرحلات النيلية رائجة قبل كوك وكذلك كانت سياحة الأفواج قد بدأت في مصر وفلسطين على يد منظم رحلات يدعى هنري جايز ولكن على نطاق ضيق جداً سبق ذلك ظهور كتب إرشادية عن الرحلات النيلية في العام 1843م والعام1847م كدليل موري للمسافرين إلى مصر والذي أعده جون جاردنر ويلكينسون لكنها أيضاً لم تلقى رواجاً كبيراً واستمر المسافرين للأراضي المقدسة يعتمدون في معلوماتهم على الكتاب المقدس وكتاب ألف ليلة وليلة وخطابات من سبقوهم لكن توماس كوك نجح في تغيير كل ما سبق فكيف فعل ذلك؟؟
في البداية وفي العام 1868م سافر كوك في رحلة لاستكشاف الإمكانات الإقتصادية والخدمية للمنطقة واشتملت رحلته على مدن القسطنطينية بيروت يافا فالإسكندرية ثم القاهرة ليتفقد وسائل المواصلات والفنادق ودرجة الأمان وأيضاً التكاليف والأرباح المتوقعة للرحلات بعدها قام بعمل حملة دعائية كبيرة عبر أوروبا للترويج للرحلة وبدأ في قبول مقدمات حجز للرحلة ليبدأ بهذا الخطوة الأولى لهيمنته على سوق الرحلات النيلية هذه الهيمنة التي استمرت لثلاثة أرباع القرن ،وفعلاً قام كوك بالرحلة مع مجموعة من 30مسافراً من الرجال والنساء وقام برحلته النيلية على متن سفينتين بخاريتين هما بنها وبني سويف إستأجرهما من شركة العزيزية المملوكة للخديوي إسماعيل كلاهما صنعتا في بريطانيا وكانتا تستخدمان لنقل الركاب مرة شهرية من الأقصر إلى القاهرة والعكس في الفترة من فبراير لنوفمبر من كل عام ولكن لم يتم استعمالهما للأفواج السياحية قبل تأجير كوك لهما وكللت الرحلة التي قادها كوك بنفسه بنجاح غير عادي أشعل رغبة كوك في أن يسيطر على سوق السياحة النيلية بأكملها ودفعه لأن يتخذ خطوة أكثر جرأة بعدها بستة أشهر ففي صيف 1869م أعلن مكتب كوك في لندن عن نيته لتنظيم رحلة لحضور مراسم افتتاح قناة السويس في نوفمبر وفي هذه المرة لم يستطع كوك أن يتفق مع أية شركة عبر المتوسط ولكنه في النهاية استطاع أن يحجز أماكن على السفينة البخارية "أمريكا" والتي كانت جزأ من الأسطول الذي سوف يبحر في القناة يوم الإفتتاح وحضر كوك الإحتفالات القناة وسجل في ملاحظاته "أنها ربما تكون العلامة الفارقة الأبرز في تاريخ عمله بالسياحة" ،وبعد إنشاء القناة ازدهر عمل كوك السياحي بالفعل حتى أنه بعد هذا التاريخ بأقل من ثلاث أعوام قام بأول رحلة لشركته حول العالم عبر سكة حديد أمريكا من الشرق إلى الغرب ثم اليابان فالصين فسريلانكا والهند عائداً إلى مصر عبر القناة في طريقه إلى أوروبا ليستعرض المسافر أغلب منجزات عصر الثورة الصناعية بالمحرك البخاري فكان إعلان كوك عن هذه الرحلة حتى قبل القيام بها ملهماً لجول فيرن ليكتب روايته الشهيرة " حول العالم في ثمانين يوماً " والتي نشرت في العام1872م أيضاً ، كذلك ازدهر العمل في مصر والتي حرص كوك الإبن هذه المرة بحلول عام1871م على أن تكون شركة كوك الناقل النيلي الوحيد فيها باستعمال سفن البخار بالإتفاق مع الخديوي إسماعيل وأصبحت رحلات كوك النيلية ذات شعبية هائلة حتى أن أي مسافرأمريكي إلى أوروبا لم يعد يجرئ على العودةإلى بلاده ومواجهة أصدقائه قبل أن يذهب لمصر ويقوم برحلة على النيل على حد ما كتب روبرت إتيزنبرجر في العام1872م وواكب هذه السيطرة إصدار شركة كوك سلسلة كتب مصورة للمسافرين بدءاً من العام1875م-1876م بعنوان " على النيل بالبخار " حفل الكتيب بالصور الفوتوغرافية التي صورت أشكال الحياة على ضفتي النهر من منطلق ثقافة العالم في المعارض التي كانت رائجة في تلك الفترة كما أظهر سحر وفخامة الإقامة على السفن النيلية ،فأصبحت الرحلات النيلية مرتبطة في أذهان الأوروبيين بشهر العسل الذي قضاه أنطونيو مع كليوبترا أو بالبحث عن الشباب والجو الصحي الجاف البعيد عن برد أوروبا وبالإجازات السعيدة والأنشطة الترفيهية حيث قام كوك بتأجير بعض الدهبيات كأماكن للحفلات وكصالات للرقص وكأنها رحلة في الماضي أما الإقامة على السفن البخارية فهي إقامة في المستقبل ،ومع تعاظم نفوذ شركة توماس كوك الإقتصادي وارتباطها بعلاقات خاصة مع الخديوي والعائلة الحاكمة أصبح هناك الآلاف من المواطنين المصريين يعملون مع الشركة بشكل مباشر وغير مباشر وزاد من تعاظم هذا النفوذ حصول الشركة على حق الملاحة وراء الشلالين الأول والثاني وعبر وادي حلفا فأصبحت شركة كوك تؤمن الإعاشة للمزارعين وأصحاب الحرف ولمدن وقرى كاملة على ضفاف النهر وأيضاً لعدد كبير من الأفراد في بورسعيد والإسماعيلية والسويس خاصة بعد استئجارها  لسلاسل من الفنادق في هذه الأماكن وفي القاهرة أيضاً وحازت الشركة على ثقة الكثير من المصريين الذين وجدوا فيها شريكاً عادلاً على عكس الأسرة الحاكمة لذلك وعند قيام الثورة العرابية في العام1882م لميتم المساس بأي من أملاك شركة كوك في كل مدن مصر بل وأصبح لشركة كوك من النفوذ ما يجعلها تصدر بياناً أثناء الثورة نص على "إن الإنجليز ليس لديهم أية نية لحكم هذا البلد بل على العكس نحن نتمنى لكم كل ازدهار وأن تحظوا بحكم رشيد وإننا على استعداد تام في هذه الظروف لأن نمد من يحتاج منكم بمبالغ كبيرة من النقود الإنجليزية عبر وادي النيل كله" وهنا كشفت الشركة عن وجهها الاستعماري القبيح فقد أصدرت الشركة هذا الإعلان ومدافع ويلسلي تدك الإسكندرية ومراكبها تنقل الجرحى والمصابين الإنجليز للعلاج من الإسكندرية إلى لندن وقبلها بالقطارات من القاهرة ،ولم تكتفي الشركة بذلك بل أرست دهبية في المياه العذبة لترعة الإسماعيلية لتكون مقراً لقبادة الجيش البريطاني خلال المعارك ونظمت عدداً كبيراً من الرحلات النيلية المجانية للجنود البريطانيين بعد انتهاء القتال وأيضاً استضافت الكثير من أقطاب الصحافة البريطانية الذين غطوا المعارك مما دفع بالجيش البريطاني لتوجيه أقصى درجات الشكر والامتنان للشركة باسم ولي العهد على الترتيبات الرائعة التي قمتم بها وكانت ذات فائدة كبيرة في تحقيق النصر .
وبعد انتهاء ثورة عرابي بعام توثقت العلاقة بين الشركة والحكومة البريطانية أكثر بعد قيام ثورة المهدي في السودان فقد قامت الشركة بإخلاء المسؤولين البريطانيين وأسرهم من الخرطوم وتوفير السفن النيلية لنقل الجنود وإخلاء الجرحى والمصابين بل إن شركة كوك قد استجابت للحكومة البريطانية في العام1884م وأوقفت كل نشاطاتها في الرحلات لتكرس سفنها بالكامل لخدمة الجيش البريطاني واستمر الإيقاف حتى موسم 1886م وهكذا نقلت كوك 18ألف جندي وأربعين ألف طن من المعدات حتى وادي حلفا باستخدام أسطول الشركة المكون من سبعة وعشرين مركباً بخارياً وستمائة وخمسين مركباً شراعياً وبالاستعانة بخمسة آلاف موظف من موظفين الشركة وقد دمرت العديد من مراكب الشركة بشكل لا يمكن إصلاحه أثناء النقل ومع ذلك استمرت الشركة في مساعدة الإحتلال بكل شكل ممكن ولم يمنع هذا شركة كوك من التفكير في الأرباح فسافر كوك الإبن بذهبية سودانية مستأجرة إلى دنجلة بعد وادي حلفا لاستطلاع إمكانيات الإبحار هناك كذلك نظمت الشركة رحلة لآرثر كونان دويل مؤلف شيرلوك هولمز لوادي حلفا في العام1896م رغم أن أغلب السودان كان قد أصبح في أيدي المهديين في تلك الفترة وكتب دويل إحدى رواياته الشهيرة مستوحياً هذه الرحلة وكان عنوانها "مأساة كورسوكو" ،وبنهاية الحرب في السودان كان الأسطول المستأجر من الحكومة المصرية الذي تستعمله شركة كوك قد دمر تماماً وكانت الفرصة سانحة للشركة لكي تبني أسطولها الخاص بعد كل الخدمات التي قدمتها للإمبراطورية وهكذا قرر جون كوك ابن توماس أن يبني أسطوله الخاص والذي وصفه بأنه مجموعة من القصور العائمة وأنه سيكون أعظم من أي مركب سبح فوق مياه النهر العظيم منذ عصر كليوبترا وأصدر كوك كتيب رحلات جديد مصور فوتوغرافياً في العام1890م وقد اكتسحت شعبية هذا الكتاب الذي كان عنوانه نصائح للمسافرين في مصر أوروبا لدرجة أنه طبع إثنا عشر مرة في الفترة من تاريخ إصداره وحتى1912م وبنهاية القرن التاسع عشر كانت كتيبات كوك قد تضاعفت وتضاعف عدد المسافرين بعد الدعاية الكبيرة والسفن الأكثر فخامة والذهبيات المطورة وأصبحت رحلات الخريف إلى مصر للأغنياء والطبقة العليا ضرورة ثقافيه وإجتماعية لابد منها ودليل على العصرية والتحضر ،هكذا اكتظت فنادق القاهرة بسائحي شركة توماس كوك وولده وتوطدت علاقة جون كوك أكثر وأكثر مع الخديوي عباس حلمي مما دفع الأخير لمنح الشركة تسهيلات أكثر لكن الصداقة الأمتن جمعت بين كوك واللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر وبهذا سيطرت شركة كوك بالكامل على كل شيء في مصر وهذه الحقيقة أوردتها مجلة بلاك وودز الأمريكية بعددها الصادر في أغسطس1889م حيث كتب محررها بالحرف " ببساطة كوك تملك مصر " ،ولهذا وبالتأكيد لم يكن نيونز مخطئاً في تصريحه فبنهاية القرن التاسع عشر وبحلول بدايات القرن العشرين كان المبشر صانع الخزائن وولده لاعبين مهمين في لعبة السياسة الاستعمارية البريطانية في مصر بل وعنصرين مؤسسين في مشهد الإمبريالية الثقافية الأنجلو سكسونية على مستوى العالم ،فتوماس كوك ونظيرتها شركة الهند الشرقية البريطانية في شبه القارة الهندية وشركات ومؤسسات تجارية وسياسية وثقافية وترفيهية وسياحية تماثلهما مجرد واجهات للهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب بدعوى جلب التقدم والإزدهار والحريات والشعارات الإنسانية هذه اللعبة لم تتغير منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن وبعد مرور أكثر من عقد ونصف من القرن الواحد والعشرين اختلفت الأزمنة والوجوه والأسماء ولكن لم تختلف الأهداف فدائماً ما يكون الإستعمار الثقافي والهيمنة الاقتصادية أقوى وقعاً وأشد أثراً من مدافع الأساطيل وسيطرة الجيوش.




 












صورة لدهبية التقطها فراند ماسون 1860م – والدهبية هي مركب ذو غاطس ضحل و قاع مسطح  - كان يبنى  بأسلوب السفن التي استخدمها السلاطين المماليك في القرن ال13

غلاف أحد أعداد مجلة كوك هو عدد تذكاري بناسبة مرور 16 عام على إنشاء الشركة بتاريخ ديسمبر 1888م والتي أصدرها لأول مرة 1851م لتغطية المعرض العالمي الأول

غلاف الكتالوج الدعائي لأحد رحلات كوك حولة العالم والتي كان من أهم وأبرز معالمها  زيارة مصر والرحلة النيلية وزيارة معرض شيكاغو في أمريكا

صورة نادرة لمراكب بخارية على ضفاف النيل حوالي عام 1867م وهناك إحتمال كبير لأن تكون هذه المراكب هي التي إستأجرها كوك من شركة العزيزية
 
غلاف أحد أعداد مجلة كوك بتاريخ 27مايو1899م والتي أصدرها لأول مرة 1851م لتغطية المعرض العالمي الأول

هناك تعليق واحد: