الأحد، 10 يناير 2016

"فضاء" جمال مليكة ....رحلة البحث في روح العالم - شذى يحي مجلة الهلال عدد ديسمبر 2015



عندما سؤل سيزان عن مضمون أعماله رد قائلاً إن ما أحاول أن أترجمه لكم لهو أشد غموضاً ويتشابك مع أصول الوجود ذاتها ومع منهج الإحساسات الذي لا يمكن لمسه ولعل هذا هو السبب الذي أراد من أجله سيزان أن يكون فناناً ،فترى لماذا أراد جمال مليكة أن يصبح فناناً تشكيلياً؟
إن سألت مليكة هذا السؤال سيحكي لك حكايته عندما كان صغيراً ومروره المتكرر على ورشة النحات زوسر مرزوق وقطع الطين التي كان يحصل عليها منه ليلعب بها ويعيد تشكيلها وعن رحلته مع الأصدقاء كل يوم جمعة للهرم ومناجاته المتكررة لتمثال أبو الهول وحلمه أن يصنع يوماً تمثال في حجمه ،وتشجيع حامد ندا وغالب خاطر وراغب عياد له في مدرسة الموهوبين ولكن هل كانت هذه هي الحقيقة؟!
الحقيقة التي وراء هذه الحكايات أن ما دفع مليكة ليصبح فناناً تشكيلياً هي تلك الرغبة الخفية التي دفعت الفنانين منذ بدء الخليقة ليبدعوا فنهم هذه الحقيقة هي ذلك الشعور بأنه الوحيد الذي يدرك العالم وأن لديه القدرة الجسدية والمادية ليجعلنا كمتلقين ندرك هذا العالم معه وبعينيه ويده ورؤيته، وبإيمانه أنه يستطيع أن يضيف لنا نظرة جديدة لوجودنا يعطينا شكل جديد للواقع الغائب عنا حالة من التكامل بين المحسوس والذي يحس ،بين الإدراك العقلي والروحاني ،بين الرائي والمرئي في حركة دائرية متصلة تهدف إلى جعل الوجود الخارجي الكبير جداً والمتشتت وجوداً داخلياً حاضراً برمته في عين الرائي والوجود الداخلي المحصور في داخل حيز النفس وجوداً خارجياً لا محدود في حركة جدلية عبر الزمان وأيضاً تتجاوز حدود المكان والمحسوس والمرئي ، الفنان فقط هو صاحب تلك القدرة العجيبة على إقامة دعائم الوجود في الوسط الإنساني ،ومليكة ببساطة ككل فنان يحمل عالمنا في خلجاته وأعماله تحول العالم المفروض علينا إلى عالم يقيمه هو وهذه هي الإجابة الحقيقية للماذا أراد كل فنان أن يصبح فناناً أو كما يقول موريس ميرلوبونتي "إن المصور يعي بفضل جسده بفضل حلوله في جسده وبفضل حلول جسده في العالم" مليكة يعي هذا تماماً ويستغل لحظة الوعي هذه وهذه الشعلة تماماً في إنتاج أعماله الفنية ولذلك يأتي حرصه على إنتهاج أسلوب التعبير المباشر اللحظي في إنتاج لوحاته حتى لا تتغير اللحظة الزمنية التي يتصل بها مع الوجود الخارجي والداخلي وتتغير حالته الجسدية والفكرية وهذا نابع من وعيه بأن الفن هو أسلوب حياة وعمليتي إنعكاس وخلق غير منفصلتين تحملان في طياتها ثقافة الأزمان الماضية مع عدم إغفال الحاضر الذي يعيشه هو مدرك تماماً أنه شريك في حركة الكون والتاريخ كمرآة وكمحرك في ذات الوقت وبفنه هذا وككل فنان يسعى مليكة أن يكشف لمتلقيه عن روح العالم تلك الروح التي تحرك الكون بشكل خفي وتدفع بحركة التاريخ للأمام ويظهر اللاشيء "العدم" هنا ليس على أنه الوجه المقابل اللامحدود للكائن بل ينكشف بصفته منتمياً لكون الكائن  ، أو كما قال هيجل  "الكون الخالص والعدم الخالص هما إذن الشيء نفسه" فالكون والعدم متلازمان لأن الكون ذاته في ماهيته نهائي ولا يتجلى إلا في تعالي الكينونة على الكائن وتعرضها فيما وراءه للعدم ،والكائن يحتوي من الواقع بقدر ما يحتوي من العدم وكانعكاس للفراغ فإنه يمكن اعتبار العدم كائناً  في حد ذاته بل هو الكائن بسبب نقائه ولا وجود للواقع إلا في قلب الصيرورة وعبرها الناجم عن الفعل السلبي وشمولية قلب الكائن والعدم وهذا التناقض هو المحرك للعلم والفكر ، وهذا الجدل هو أساس التموضع التدريجي للروح الإنسانية التي يرى هيجل أنها دائماً في حالة حركة فالروح لا تستريح أبداً إنها دائماً تتقدم ، وقد لا تشغل كل هذه النظريات مليكة ولكنه يعيها جيداً يعي تماماً أمرين أولهما أن قوام الفن الحقيقي هو الحس والثاني أن مهمة الفنان أن ينتقل من لحظة الجزئي إلى لحظة الكلي من خلال العلم الحقيقي وهو العلم الذي بلغته الإنسانية على تنوع أجناسها وشعوبها عبر أزمنتها ، لقد كتب الناقد الكبير أسامة عفيفي في الفقرة الأخيرة من تقدمته لمعرض "المراقب" الذي أقامه مليكة العام الماضي "أعتقد جازماً أن هذه التجربة ستفتح لجمال مليكة أبواب مرحلة فنية ملحمية جديدة تتجلى فيها قدراته وموهبته وواقعيته ليقف أكثر صلابه عند الخط الفاصل بين الوجود والعدم" وهذا ما حدث فعلاً وتحققت النبوءة في معرضه "فضاء" الذي أقيم في مركز الجزيرة للفنون بالزمالك في الفترة من 4نوفمبر وحتى 18نوفمبر2015م ،فقد ظهر تماماً مدى نضج وتبلور تجربة مليكة التي بلغت ذروة عطاءها فكرياً وحسياً ومعرفياً وظهر تماماً مدى قدرته في أن يعبر في أعماله عن تلك الحالة من الديالكتيك المعرفي التي تشمل أصل العالم في جدليته والثقافة الكونية في انبعاثها وتحقق الوعي الجزئي بكل معاناته وكشوفه فتبدو أشكال مليكة في لوحات هذا المعرض منفتحة لها خطوط منطلقة في حركة أشبه بالطيران الذي لا تخطئه العين لتقيم علاقات بينها وبين الفراغ المحيط بها لتظهر وكأن أجسادها تتحلل بعيداً عن كتل الجسم الكلية في محاولة منها لتتمسك بأهداب العالم في لوحة العناق يباغتك توغل الشكل في الزمان والمكان ليبدو المشهد كأنه حالة عناق كونية فوق مادية حالة من الحرية في ترك الكائن يكون ، في أن يقبل على المجال المنفتح الذي يمكن أن يتجلى فيه كل كائن ففي ترك الكائن ليكون تحدث الحقيقة والحقيقة هي كشف الكائن ، أما أعماله البارزة أو مشاهد الحيوات المتراكبه كما يحلو له أن يسميها بألوانها المستمدة من الأثير والغبار وعناصر الذهب والفضة الرامزة للخلود فقد تمكن فيها مليكة مما أطلق عليه جارودي في كتابه واقعية بلا ضفاف اسم "القواعد الفكرية العميقة للفن الروماني المسيحي" أي قانون الحد الأقصى من الإرتباط المعبر عن العلاقة بين الكائن "الكائن في حالتنا هذه هي البيوت التي  كان ينظر إليها من أعلى بمنظور عين الطائر ويشاهدها بكل عشوائيتها وعيوبها  كأنها أجزاء من أجساد بشرية بيوت أنسنها مليكة وأعطاها حياة ساكنيها وأرواحهم " والخير الذي يتحرك فيهم ويبدو ترابط أشكال البيوت  الملتصقة معاً في كتلة متماسكة كما لو كانت تخضع لقانون جاذبية خاص بها وقانون الحركة المتصلة المتمثلة في الخطوط المتداخلة دون أن يتوقف أحدها في فراغ فالكل يتداخل هنا معاً وخطوط القوى تستمر وتفرض على أنظارنا دورة لانهائية ، دورة تؤكد لنا أن الفراغ الذي نشعر به ونحسه هو الحقيقة الوحيدة التي نعرفها ولكنها حقيقة جدلية لأننا لا نستطيع أن ندرك ما هو أكثر منها ، حتى في عمله التركيبي الذي هو ذروة محاولاته لاكتشاف المطلق والإشتباك معه من خلال الكتلة والفراغ والغائر والبارز والوحدة والتنوع والذي يتبدى فيه ولعه الأكبر بفكرة الربط بين السماء والأرض يبدو اهتمامه الأكبر في إيجاد العلاقة بين الكتل والأجسام والفراغ المحيط بها من خلال طبقاتها وبروزها ورغبته في اكتشاف الفراغ المجهول من خلال ذلك الثقب الذي ينغرس فيه رأس القطعة الفنية محاولاً استكشاف المجهول ونقله للجمهور الواقف تحته وربط تلك الكرات أو العوالم المتشظية مع ذلك العمود الذي هو بمثابة الرابط بين الصاعد والهابط بأرضية من حبات الرمل الصفراء المكون الأساسي  لنسيج المادة كأنه يحاول إيجاد رابط بين ما هو روحي وما هو مادي.  
أما أبو الهول أسطورة مليكة الصرحية التي تجمع بين قدرته على اللعب بالملمس والخط الخشن وتضاده مع الخط اللين وسط التهشير والتقشير الذي يبدو كأنه طبقات وطبقات من الزمن أو أجزاء حكايات من أزمنة مرت على هذا الكائن الملحمي فأعطته وجه من الموزاييك الكوني،  فأبو الهول هنا هو صاحب الوجود الداخلي المحصور في حيزه ويتصارع مع الوجود الخارجي الممثل بالفراغ حوله هذه المرة في جدلية أزلية لأن أبو الهول هو رمز مليكة الأمثل أيقونته الذروة التي اختزل بها ترجمته لكل الشفرات هو اشتباكه الأقوى مع أصول الوجود ومنهج الإحساسات الذي لا يمكن لمسه كما عبر سيزان ،أبو الهول مليكة الذي يتغير ويختلف في الشكل واللون والتكوين هو مفتاح تجربته الذي يواجه بها تيارات الإغتراب ويربطه بالجذور بأصله وتراثه وعالمه الخاص المكتفي المتوحد معه والمعبر عنه ، فيه تشعر بإيقاع عالم يحمل في داخله الإكتمال ونغمية موسيقى الروح فيه حل للغز الوجود كما يراه، "فضاء" يعيد إلى الذهن الكلمة التي قدم بها الراحل كمال الملاخ مليكة في معرضه الأول بالقاهرة وكتب فيها "في الخيال الثائر بكل إبداع ،أعمالك الفنية تذكرني وتنقلني للتو إلى أجواء أساطير الحضارة وعوالم الإيمان".      



                                                    

 











"حوار مجهول بين أينشتين وطاغور" مقال شذى يحي - مجلة "المجلة" عدد يناير 2016



النص الذي بين أيدينا هو مناظرة تمت بين رابندرناث طاغور وألبرت أينشتين في منزله بعد سلسلة من المحاضرات ألقاها طاغور في عدة عواصم عالمية عن رؤيته وفلسفته فيما يختص بالدين والإيمان وطبيعة الحقيقة مما أثار جدلاً لدرجة إتهامه بالهرطقة مما دفع أينشتين لأن يدعوه إلى منزله لمناقشة آراءه والحوار بشأنها ،وتكمن أهمية الحوار الذي مازال محل دراسة وبحث في المحافل العلمية والفلسفية العالمية أن طرفيه اتخذا مواقف وآراء تختلف عما عرف عنهما وبدا أن رؤية طاغور للحقيقة أكثر موضوعية وحداثة من رؤية أينشتين التي كانت راديكالية ،وقد حدث خلاف بين أينشتين والفيزيائي الدينماركي ماكس بور بعد هذا الحوار بفترة حول نفس الموضوع ولكنه كان أكثر حدة ونظرية ،وقد أثارت هذه المناظرة ضجة بعد نشرها لدرجة جعلت أينشتين والذي كان قد أصر على مراجعة نصها قبل نشره لنفي حدوثها من أساسه ثم تراجع بعد ذلك عن هذا النفي بعد تلبية طلبه بحذف أجزاء من المقال المنشور وإعادة نشره معدلاً أي أنه عدله مرتين وهو ما لم يتح  لطاغور بالطبع ،ولأهمية هذه المناظرة ولأنها مازالت مثار جدل كان من الضروري أن تقدم للقارئ العربي في لغة سلسة لإعادة إلقاء الضوء على فكر وآراء كل من أينشتين وطاغور.
"لقد كان مثيراً جداً للاهتمام مشاهدتهم معاً ،طاغور الشاعر الذي له عقل مفكر وأينشتين المفكر الذي له عقل شاعر لقد تبادلا الأفكار معاً بكل سلاسة ولكن الحقيقة التي تظهر لأي مراقب هي ان هذه المناظرة كانت مثالاً على كوكبين مختلفين تماماً انخرطا في حوار" هذه هي افتتاحية المقال الذي كتبه الصحفي ديمتري مارينيوف صديق أينشتين وزوج ابنته بالتبني مارجو فيما بعد ونشر في عدد 10أغسطس1930م بجريدة نيويورك تايمز تحت عنوان "مثقال الحقيقة" ضمنها الحوار الذي دار بين عملاقي الأدب والعلم الأشهر في القرن العشرين في مزرعة أينشتين بالقرب من برلين، وصف مارينيوف اللقاء بأنه كان ودياً والتقطت فيه العديد من الصور للرجلين ،الأكيد أنك عندما تنظر إلى صور اللقاء التي جمعت الرجلين ينتقل إليك بالفعل شعور مارينيوف العيون تعكس مجلدات من المعاني والأفكار التي ربما تتعدى ما تبادلوه من كلمات في هذا الحوار الذي دار بين فيزيائي فيلسوف وشاعر متصوف موسيقي متفلسف ،لم تكن هذه المرة الأولى التي يقابل فيها طاغور الذي كان قد أصبح شخصية عالمية مرموقة في تلك الفترة بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب في العام 1913م كأول أسيوي يحصل عليها وأينشتين الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء في العام 1921م وإن كان قد تم إعلانها في 1922م بل الثابت انهم تقابلوا عدة مرات في 1912م ثم في 1926م لكن في العام 1930م بدأت الحوارات بين الرجلين في سلسلة من أربع لقاءات ثلاث منها تمت في ألمانيا واللقاء الأخير كان في أواخر 1930م في نيويورك ولم ينشر منهما سوى لقاءين كان المنشور في النيويورك تايمز أولهما.
وبمقدار شهرة أينشتين في ألمانيا كانت شهرة طاغور الذي كان يستقبل كالأبطال في كل مرة يزور فيها ألمانيا حتى أنه رغم تقدمه في السن كان معبوداً للشابات والمراهقات وفلسفته وأشعاره لها شعبية جارفة في مجتمع المانيا مابين الحربين ربما لأن الهزيمة في الحرب الأولى جعلت المزاج العام أقرب للروحانية أو لأن الألمان رأوا شبهاً كبيراً بين طاغور وشاعرهم الأعظم جوته الشاعر والفيلسوف والأديب صاحب الاهتمامات الكبيرة بالعلم والعلماء في عصره ،فلم يكن مستغرباً أن يكون طاغور مهتم هو الآخر بالعلم ونظرياته ولهذا لم يكن غريباً على الرأي العام أن يجري هذا الحوار مابين الفيزيائي الفيلسوف والشاعر الفيلسوف ليتبادلا فيه الآراء حول الجمال وطبيعة الحقيقة ومدى ارتباطها بالإنسان وكانت أول ملاحظة لمارينيوف على هذا الحوار أن طاغور تحدث فيه بالإنجليزية بينما وللغرابة تحدث أينشتين بالألمانية رغم إجادته للإنجليزية وتعديله لنص الحوار مع مارينيوف بعد ترجمته وربما كان هذا لحرص أينشتين على توضيح فكره وقوة حجته وخشيته أن لا تسعفه لغة غير لغته الأصلية في ذلك على أن هذا ربما زاد من صعوبة التواصل أثناء الحوار وهو ما لاحظه كل من حضره  وإن كانوا قد أرجعوا هذه الصعوبة إلى الخلاف القوي في وجهات النظر بالدرجة الأولى  ،ومع هذا لم يشكك الحضور في أن الرجلين كانا يكنان إحتراماً عميقاً لفكر أحدهما الآخر وأن كل منهما حاول خلال الحوارات المتبادلة إيجاد نقاط مشتركة بين أفكارهما وهذا هو نص الحوار الأول الذي جرى بينهما ومازال محل دراسة من الفلاسفة وأساتذة فيزياء ورياضيات الكم حتى يومنا هذا.
بدأ طاغور الحوار الذي دار بالقرب من برلين في 14يوليو1930م بقوله: عندما كنت أنت مشغولاً ومسكوناً بالرياضيات ومقاربات الرفيقين القديميين الزمان والمكان كنت أنا أحاضر في هذا البلد حول عالم الإنسان الخالد حول  كون من الحقيقة.
ورد أينشتين: هل تؤمن بأن الألوهية منعزلة عن العالم؟
وكان رد طاغور: الألوهية ليست منعزلة بالطبع فذات الإنسان اللامتناهية تستوعب الكون كاملاً فلا يوجد شيء لا يمكن استيعابه من قبل الذات الإنسانية وهذا يبرهن على أن حقيقة الكون هي حقيقة إنسانية ولإيضاح الفكرة سوف استخدم حقيقة علمية ،تتألف المادة من الكترونات وبروتونات بينهما فراغات ومع ذلك تبدو المادة كتلة واحدة متراصة والحقيقة أنها تتكون من ذرات مترابطة بعلاقات وعلى هذا النحو تتكون البشرية من أفراد تربط بينهم علاقات متبادلة تعطي المجتمع الإنساني وحدة العضو الحي الكون برمته مرتبط بنا بنفس الرابط فالكون هو كائن فرد ولذلك فهو كون الإنسان.
اينشتين: هناك تصورين مختلفين حول الطبيعة الكونية الأول يرى الكون وحدة كلية تعتمد على الإنسان والثاني يرى الكون حقيقة لا تعتمد على العنصر البشري.
طاغور : عندما يكون كوننا في حالة تناغم مع الإنسان فإن الخلود الذي نعرفه بأنه الحقيقة نشعر به ونعرفه بأنه الجمال.
أينشتين: هذا حقيقة تصور إنساني خالص للكون.
طاغور: هذا العالم هو عالم الإنسان حتى التصورات العلمية له ،هي تصورات الإنسان العلمي ،العالم المستقل عنا لا وجود له هذا عالم نسبي وما نعرفه على أنه واقعي هو رهن بإدراكنا ،وهناك بعض المعايير التي تحكم ماهو مقبول وماهو ممتع وهذا هو ما يعطي للعالم مصداقية وهذه هي معايير الإنسان الأبدي الذي يستقي معاييره هذه من محصلة خبراتنا.
أينشتين: هذا تجسيد للجوهر الإنساني.
طاغور: نعم فالجوهر الإنساني الذي ينبغي لنا أن ندركه هو محصلة لمشاعرنا وأنشطتنا فالإنسان الأسمى ليس محدوداً بصفات فردية وإنما هو عالم من الحقائق البشرية التي يبلغها الدين وليس العلم ويربطها باحتياجاتنا الأعمق ‘إذن فإدراكنا الفردي للحقيقة يكتسب معنى شاملاً بالدين ونحن نبلغ هذه الحقيقة عبر شعورنا بالتناغم معها.
أينشتين: إذاً فكلاً من الحقيقة أو الجمال  ليسا منفصلان عن الإنسان؟!
طاغور: أنا لم أقل ذلك.
أينشتين: بمعنى أنه لو لم يعد هناك بشر بعد الآن إذاً فإن أبوللو لن يكون جميلاً؟!
طاغور: لا لن يكون.
أينشتين: قد أتفق مع هذا المفهوم للجميل ولكن أختلف معك بالنسبة للحقيقة.
طاغور: ولم لا؟ إن الحقيقة لا تدرك إلا من خلال الإنسان .
"وفقاً لديمتري ماريانوف الذي حضر الحوار فإنه قد سادت فترة طويلة من الصمت بعد هذه الجملة استطرد بعدها أينشتين في الحوار بسلاسة وثقة"
أينشتين: لا أستطيع أن أثبت صحة مفهومي للحقيقة لكن هذا هو ديني .
طاغور: الجميل هو مثالية التناغم الذي يكمن في الذات الكونية والحقيقة هي الإدراك الكامل للعقل الكوني، فنحن كأفراد نوجد مقارباتنا مع الحقيقة من خلال أخطائنا وهناتنا وعبر تراكم خبراتنا وتنوير ضمائرنا وإلا بأية طريقة أخرى سنعرف الحقيقة؟!
أينشتين: لا يمكنني الإثبات لكنني مؤمن تماماً بالجدل الفيثاغورثي وبأن الحقيقة منفصلة عن الذات الإنسانية إنها مسالة منطق واستدامة.
طاغور: الحقيقة المتجسدة في الوجود الكوني لابد وان تكون إنسانية بالدرجة الأولى وإلا فإن كل ما يعده الشخص حقيقة لا يمكن اعتباره كذلك على الأقل الحقائق التي يطلق عليها حقائق علمية والتي لا يمكن الوصول إليها من خلال أداة التفكير والتي هي أداة بشرية ،طبقاً للفلسفة الهندية هناك البراهمان وهو الحقيقة المطلقة والتي لا يمكن إدراكها من خلال العقل المتفرد أو وصفها بالكلمات بل يمكن الوصول إليها فقط بإندماج الفرد مع المطلق اللامتناهي ،لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن أن تنسب للعلم فالحقيقة التي نتحدث عنها هنا هي حقيقة مظهرية تتلخص فيما يظهر على أنه حقيقي بالنسبة للعقل ولهذا فهي ذات طبيعة بشرية من الممكن أن نطلق عليها إسم مايا (وهم) أو توهم illusion.
أينشتين: هي إذاً ليست وهماً للفرد بل وهم للأجناس؟!
طاغور: الأجناس تنتمي أيضاً للوحدة البشرية ولذلك فإن كل البشرية تدرك نفس الحقيقة ،العقل الهندي والعقل الأوروبي يتعاطون نفس الحقائق.
أينشتين: إن كلمة أجناس تستخدم في الألمانية بمعنى الجنس البشري وفي الحقيقة انه حتى القرود والضفادع تدرج تحت نفس الكلمة ،المشكلة هنا هي ماإذا كانت الحقيقة مستقلة أو خاضعة لإدراكنا؟
طاغور: إن ما نسميه حقيقة يكمن في التناغم العقلي بين الجوانب الذاتية والموضوعية للواقع وكلاهما ينتميان إلى الإنسان الأسمى.
أينشتين: نحن نقوم بأشياء في حياتنا اليومية بدون أية مسؤولية أو تفكير منا فالعقل يدرك هذه الحقائق الخارجة عنه والمستقلة عن واقعه على سبيل المثال من الممكن أن يكون المنزل خالياً من البشر ومع ذلك تظل المائدة في مكانها.
طاغور: نعم هذه المائدة قد تكون خارج العقل الفردي ولكنها ليست خارج العقل الكوني فالمائدة هي مائدة بالنسبة لنا لأننا أوجدنا وعياً جمعياً بأنها كذلك.
أينشتين: إذا لم يكن هناك أناس في البيت فإن المائدة ستظل موجودة ولكن هذا غير جائز من وجهة نظرك لأنه لا يمكن تفسير سبب وجود المائدة هناك مستقلة عنا كبشر ،إن وجهة نظري هي ان الحقيقة موجودة بغض النظر عن وجود الإنسانية وهي وجهة نظر لا يمكن إثباتها أو تفسيرها ولكن لا يمكن لأي أحد أن ينفيها ولا حتى البشر البدائيين، إننا ننسب الحقيقة لموضوعية متعالية على الإنسان وهذا الواقع مستقل عن وجودنا وخبراتنا وعقولنا ولا نستطيع أن نفسر ما معناه.
طاغور: لقد أثبت العلم أن المائدة كجسم صلب ليس سوى مظهر خارجي فما يدركه العقل بوصفه المائدة لم يكن له وجود لولا العقل ،أما الواقع الفيزيائي لها فهي مراكز قوى كهربية تدور منفصلة عن بعضها وبالتالي فإنها تنتمي أيضاً للعمل البشري ففي مسيرة إدراك الحقيقة يحدث نزاع ابدي بين العقل البشري الجامع والعقل المحدود للكائن الفرد ،هذه العملية الإدراكية تجري في علمنا وفلسفتنا وأخلاقنا وفي جميع الأحوال إن كان هناك وجود لحقيقة مطلقة مستقلة عن الإنسان فإنها بمثابة العدم المطلق بالنسبة إلينا. وليس من الصعب على أي شخص أن يتصور عقلاً لا يتطور مع تعاقب الأحداث  بالنسبة إليه ليس في المكان بل في الزمان فقط ويكون هذا بمثابة تعاقب النغمات في الموسيقى بالنسبة لعقل كهذا فإن تصور الواقع يماثل الواقع الموسيقي  الذي بالنسبة له ليس هناك معنى لنظرية فيثاغورث ،على سبيل المثال هناك واقع الورقة البعيد كل البعد عن واقع الأدب فبالنسبة للحشرة التي تتغذى على الورق لا وجود للأدب بينما الأدب بالنسبة للعقل الإنساني حقيقة لها قيمة أكبر كثيراُ من قيمة الورقة ،وعلى هذا النحو تماماً فإنك إن جزمت بوجود حقيقة لا علاقة لها بالجانب العقلي والحسي للإدراك البشري فسوف تبقى عدماً بالنسبة لنا مادمنا نمتلك عقل إنسان.
أينشتين: إذاً فأنا أكثر تديناً منك "قالها بنبرة المنتصر" .
طاغور: تديني يتلخص في إعادة إحياء ذلك الإنسان الأسمى تلك الروح الكونية في كياني الشخصي.
أما حوارهما الثاني في اغسطس1930م فدار حول علاقة العلم والفيزياء والظواهر الطبيعية بالسلوك البشري ومدى تشابههما في بعض الأحيان وتشعب الحوار بعد ذلك ليناقش طبيعة الموسيقى في الهند واختلافها عنها في أوروبا وأنها أكثر حرية ومع ذلك أكثر انضباطاً وإن قواعدها تقوم على الزمنية وليست على الإيقاعية ،وعندما سأل أينشتين طاغور أليس لديكم آلات موسيقية؟
كان رد طاغور إن الآلات تستخدم ولكن ليس لخلق الإنسجام بل للحفاظ على الفواصل الزمنية ولإضافة كثافة وعمق للصوت ، ثم توجه بسؤال لأينشتين: هل تعاني ألحانكم من استحواذ الرغبة في انسجام العناصر اللحنية؟ فكان رده أنها تعاني من ذلك في أحيان كثيرة بل إن الحفاظ على الإنسجام النغمي يبتلع اللحن في بعض الأحيان.
طاغور: إن التناغم والإنسجام مثل الخط واللون في اللوحة الفنية في بعض الأحيان لوحة خطية بسيطة من الممكن أن تكون غاية في الجمال فإذا أضفنا إليها اللون فقدت معناها ولكن إذا تمكنا من إحداث التوازن بين الخط والألوان سوف نحصل على لوحة عظيمة أما إن أفرطنا فسنفقدها قيمتها.
وعقب أينشتين: إنها مقارنة أكثر من رائعة الخط أيضاً أقدم كثيراً من اللون على مايبدو إن ألحانكم أكثر غنى من ألحاننا ويبدو أن الألحان اليابانية هي أيضاً كذلك. ثم استطرد الحديث لينافش عدم امكانية تحليل الموسيقى بشكل علمي ولا موضوعي ،وهو ما دفع أينشتين للقول إن هذا الشك سوف يظل دائماً يرافقنا عند تحليل أي شيء جوهري في تجاربنا وفي تفاعلاتنا مع أشكال الفن فسواء في أوروبا أو آسيا الوردة الحمراء التي أراها أمامي على طاولتك قد لاتمثل لك ما تمثله لي. ورد طاغور ومع ذلك سيظل هناك دائماً آليات لتتقارب الأذواق الفردية طبقاً لمعايير كونية .
طبيعة الحقيقة كانت هي نقطة الخلاف الأكبر بين الرجلين وظل كل منهما مؤمن بفكرته حتى وفاته ومع ذلك فقد احتفظا بصداقتيهما العميقة وتقديرهما لبعضهما البعض كما سبق ذكره بل إن طاغور خلال حوار له في طهران  قال  عند سؤاله عن اينشتين "إنه أعظم المفكرين في عصرنا" وقد فسر البروفيسور أيزيا برلين في محاضرة بجامعة أكسفورد 1993م هذا الرأي بأنه على الرغم من الخلاف الفلسفي العميق إلا أنهما كانا متوافقين في الفكر الأخلاقي والقيم الاجتماعية رغم عدم تقبل أينشتين أن العقل الكوني مسيطر على الطبيعة إلا أنه تقبل رؤية أخرى لطاغور هي أن الظواهر الإنسانية تتشابه مع الظواهر الطبيعية ومثل ذلك بأن السحاب مثلاً يبدو للناظر من الأرض ككتلة واحدة بينما هو تجمع لقطرات من الماء كما يبدو المجتمع أحياناً أيضاً كتلة واحدة رغم أنه يتكون من ملايين البشر المختلفين.
ولأن هذا اللقاء لم يكن عادياً فمازال مثار نقاش وجدل منذ حدوثه وحتى الآن فمثلاً قال عالم الكيمياء الحاصل على جائزة نوبل عام 1977م إليا بريجوجين في العام 1984م إن السؤال عن معنى الحقيقة كان المحور الرئيسي لهذا الحوار الذي أصر فيه أينشتين على أن الحقيقة يجب أن تكون بمعزل عن أي كائن مغفلاً عامل الزمن كأحد معايير التقييم لما هو حقيقي على عكس طاغور الذي كان يرى أنه لو وجد ما يسمى بالحقيقة المطلقة فأنها تظل خاضعة لفضول العقل البشري ومعياريته وأثبت الزمن أن الشاعر هو صاحب الرأي الصواب ،كذلك في محاضرة ألقاها الأستاذ جينادي شيبوف على طلبة قسم الفيزياء في جامعة وارسو عام 2011م قال إن أينشتين قابل طاغور ليقنعه أن المادة والروح منفصلين بينما رأى طاغور أن الروح تصوغ شكل المادة وأن هناك علاقة أكيدة بينهما وان هناك دلائل على وجود مستويين من الحقيقة وهذه حقيقة كونية وإن كانت غير قابلة حالياً للقياس بالمعادلات الرياضية.
هذه الآراء انحازت لصحة رؤية الحقيقة عند طاغور وهي الرؤية التي ظل مصراً عليها حتى آخر يوم في حياته حتى أنه كتب في قصيدته الأخيرة الآتي:
تسأل شمس اليوم الأول
سؤالها للحياة الجديدة
من أنت؟
فلا تتلقى جواباً
وبعد أعوام عديدة
تطرح آخر شمس لآخر يوم على ضفاف البحر الغربي
عليها في أمسية قاسية سؤالها
من أنت؟
وأيضاً لا جواب.