السبت، 10 أكتوبر 2015

مصر الصغيرة .. الاستشراق عبر بوابة الرقص الشرقى - شذى يحي -مجلة الهلال عدد سبتمبر 2015



إمرأة حسناء قسماتها عربية عيناها سوداوان واسعتان وبشرتها  بلون الحنطة ولها شعر غجري داكن تتلوى وتتثنى نصف عارية مستعرضة جسدها الملفوف رغم ميله للإكتناز ،وتهز ردفيها الفخيمين بحركات افعوانية خليعة تثير الشهوات وتدغدغ الغرائز أثناء تمايلها الماجن على إيقاع الآلات الشرقية التي تعزف لحن صاخب.
هذه هي الصورة التي سوف تقفز لذهن أي أمريكي بمجرد أن يذكر أمامه إسم "ليتل إيجبت" Little Egypt أو مصر الصغيرة صورة رسختها وكرست لها الكثير من الأعمال الأدبية والمسرحية والغنائية وأيضاً الأفلام الهوليودية منذ أكثر من مئة عام وارتبطت بها العديد من المصطلحات التي هي الأخرى حملت بإيحاءات ومعان بذيئة ومهينة مثل الهوتشي كوتشي "Hochy-Khoochy" وهي تحوير لهشك بشك، والشيك أند شيمي "Shake and shimmy" أو الهز والتمايل وكذلك المصطلح الأشهر البيلي دانس"Belly-Dance" أي رقص البطن أو المعدة وهو الاسم الانجليزي الذي اصطلح عليه لتعريف الرقص الشرقي.
فمن هي إذن هذه المرأة التي حملت هذا الاسم العجيب وهل حقاً كانت سيئة السمعة وبهذه الخلاعة؟ وكيف وصلت إلى أميركا وحفر اسمها في الثقافة الشعبية الأمريكية بهذه القوة؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد من العودة إلى القاهرة نهايات القرن التاسع عشر بالتحديد العام1891م حيث كان الخديوي توفيق هو حاكم مصر في تلك الفترة دائم السعي في أن يثبت أن مكانة بلاده التي تسبب في إحتلالها من قبل الإنجليز في العام1881م لم تتأثر بسبب الاستعمار ولذلك كان حريصاً أشد الحرص على انتهاز الفرص للمشاركة في المحافل الدولية وخاصة المحفل الأهم في تلك الفترة وهو المعرض العالمي للفنون والصناعات الذي كان يقام مرة كل خمس سنوات في مدينة غربية ويعد بمثابة فرصة لإظهار الأمم لعظمتها ولكن ولأن مصر كانت مستعمرة ومكانها الطبيعي في المعرض هو رواق المستعمرات كانت حاشية الخديوي تتحايل بالزعم أن تمثيل مصر في المعرض يأتي من قبل مواطنين مصريين ومهتمين بمصر من جنسيات أخرى للحصول على جناح مستقل فيتم تعيين مدير للعرض وتقوم الحكومة المصرية بكافة التسهيلات والمصاريف في الخفاء، وقد دفع النجاح المذهل للجناح المصري في معرض باريس1889م وخاصة للجزئ الذي عرف "بشوارع القاهرة" الخديوي لأن يطلب من معاونيه الإعداد المبكر للدورة التالية في شيكاغو والتي ستقام في1893م والاهتمام بصفة خاصة بالرقص الشرقي الذي ابهر زوار باريس وجعل العرض المصري هو اكثر العروض شعبية في المعرض ،وهكذا اسندت مهمة تنظيم شوارع القاهرة إلى السيد جورج بنجالوس وهو مصرفي تركي من أصول يونانية وبدعم كامل من الحكومة المصرية للخروج بأفضل عرض مبهر وقد استمرت الحكومة على حماسها حتى بعد وفاة الخديوي توفيق وتولي ابنه عباس حلمي الحكم بل إن الخديوي الشاب كان أكثر حماسة من ابيه الراحل، رغم هذا فإن الأمر لم يكن سهلاً خاصة فيما يتعلق بالراقصات فشيكاغو لم تكن باريس إضافة إلى أن طول الرحلة إلى أرض مجهولة والغياب لمدة طويلة عن القاهرة جعلا من مهمة بنجالوس في توظيف الراقصات سواء كن شهيرات أو حتى مغمورات مهمة شبه مستحيلة مما دفعه لاستعمال الحيلة كما كتب في مقال نشر في مجلة كوزمو بوليتان الأميريكية في أحد أعداد عام1897م وعنونه "قصة شوارع القاهرة" ويحكي بنجالوس في المقال أنه أعلن في العام1891م عن مسابقة للراقصات ليشاركن في معرض شيكاغو1893م وبالطبع لم تتقدم ولا راقصة فقام هو بنشر إشاعة في أرجاء أحياء الراقصات في القاهرة وهي شارع محمد علي والأزبكية وروض الفرج وعماد الدين مفادها أن الآنسة فريدة مظهر القادمة من حلب والتي حققت في تلك الفترة شهرة مدوية في دنيا العوالم في زمن قياسي قد تقدمت للمسابقة ولم يتم قبولها لأنها ليست على المستوى المطلوب ,ودفع هذا العديد من الراقصات الشابات اللاتي كن يغرن من صعود الآنسة فريدة السريع للتقدم للمسابقة تلا ذلك طبعاً غضب شديد من فريدة ومحاولات للنفي ثم وبإيعاز من بنجالوس نفسه نصحها بعض المقربين منها أن تتقدم للمسابقة فعلاً وتعلن إنسحابها بعد إعلان قبولها لترد على المشككين ،وفعلاً تقدمت فريدة للمسابقة وقبلت ولكن دفعها إحساسها بالنجومية المفاجئة التي أحاطت بها وحبها للمغامرة أن توافق فعلاً على السفر لشيكاغو وهكذا تكون لدى بنجالوس فريق من الراقصات هن "فاطمة الحوري– فاطمة الحصرية- هانم- أمينة إبراهيم- سعيدة محمد- صديقة- نبوية- فهيمة- زكية- ماريتا- حسنية" وبالطبع بطلة عرضه فريدة مظهر والتي افردت لها رقصة خاصة بعنوان "فاتيما الجزائرية قادمة إليكم من المغرب"، وعلى الرغم من ان أمريكا عرفت الرقص الشرقي منذ 1876م عندما عرضت أكثر من راقصة في مئوية مدينة فلادلفيا لكن عرض 1893م كان هو الإحتكاك الحقيقي مع الجمهور الأميريكي الذي زار أكثر من إثنين مليون فرد منه الجناح المصري واذهلهم مسرح شوارع القاهرة براقصاته وبخاصة فريدة مظهر التي أطلق عليها الجمهور اسم "مصر الصغيرة" لأن مقاييسها الجسدية الممتلئة لم تكن مألوفة لدى الأميريكيين وبعد انتهاء المعرض أكمل بنجالوس مع راقصاته عروضهم في جولات مع المعرض العالمي عبر أنحاء أمريكا فتوجهوا غرباً إلى سان فرانسيسكو حتى العام1895م ثم شرقاً إلى نيويورك في خريف نفس السنة وانفصلت عنهم فريدة في نيويورك بعد أن أتاها عرض للرقص في كازينو كبير هناك ،ولكن هذا لم يستمر طويلاً حيث ثار بعض المحافظين الذين رأوا أن رقصات "الهوتشي كوتشي" كما سموها وما أطلقت عليه الصحف رقص البطن Belly dance وهي الترجمة الانجليزية للمصطلح الفرنسي Danse du ventre الذي استعملته الصحف الفرنسية للدلالة على الرقص الشرقي في معرض باريس1889م التي تقدمها فريدة هي شفرة وثنية شيطانية استخدمتها سالومي لتنجح في إقناع هيرودوس ليقطع رأس المعمدان، وأبلغوا الشرطة التي هاجمت الملهى مما دفع فريدة لمغادرة نيويورك عائدة لشيكاغو خاصة بعد رفضها لعرض من متحف نيويورك لتؤدي رقصة النحلة الخليعة التي ذكر الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير أن الراقصة كوتشك هانم رقصتها له في مصر، مما دفع المتحف لأن يتعاقد مع راقصة كارنفالات كندية تدعى كاثرين ديفين وتطلق على نفسها اسم الهند الصغيرة لأداء الرقصة فقامت كاثرين بتغيير إسمها إلى "عائشة وهبي" Ashea-Wabe ليعطي إحساساً عربياً ورقصت مدعية أنها هي نفسها مصر الصغيرة، وحتى هذا التاريخ لم تحتل مصر الصغيرة صفحات الصحف ولم يكن لها أثر كبير في الثقافة والحياة الشعبية الأميريكية رغم شهرتها النسبية حتى شهر ديسمبر من العام1896م عندما احتل اسم مصر الصغيرة الصفحة الرابعة في كل صحف أميريكا بعد حفلة عزوبية أقامها اثنان من أثرياء نيويورك هما الأخوين بارنوم سيلي "Barnum-Seeley" واستعانا بخدمات كاثرين ديفين منتحلة لقب مصر الصغيرة لتؤدي دوراً خليعاً في عرض مقتبس من رواية للفرنسي جورج دو موريير صدرت عام1890م اسمها "تريللبي" وكان من المفترض أن تتعرى البطلة في نهاية العرض وبالطبع أبلغ المحافظين الشرطة التي داهمت الحفل قبل تعري الآنسة ديفين وثارت ضجة هائلة حول كيف تداهم الشرطة حفلة خاصة لصفوة المجتمع واستغلت ديفين تلك الفضيحة التي استمرت لأشهر لجني المزيد من الشهرة والمال فقامت ببطولة مسرحية بعنوان "مصر الصغيرة حفلة عشاء آل سيللي" عرضت في مسرح الأوليمبيا ببرودواي وحصلت على الحقوق المادية عن أغنية ألفها جيمس ثورنتون بعنوان شوارع القاهرة، كما واصلت الرقص الخليع في عدة أماكن مما شجع العديد من النساء الأخريات على انتحال إسم مصر الصغيرة مثل من عرفت باسم عائشة دي جميل، وحدا أيضاً بفريدة مظهر التي كانت قد استقرت في شيكاغو وتزوجت من صاحب مطعم يوناني يدعى اندرياس سبيروبولس لأن تقيم دعوة قضائية عليها وتنشر تكذيبات في الصحف لكن ضجة ديفين استمرت هي المتصدرة خاصة بعد أن رفعت قضية على الأخوان سيللي تتهمهما فيها بأنها لم يعطياها حقوقها المالية بالتسبب لها في ضرر معنوي، كذلك بسبب أن شركة إديسون التي أنتجت أفلام ترويجية قصيرة للراقصات الثلاث ديفين- دي جميل- ومظهر وروجتها تحت اسم موحد هو القاهرة الصغيرة لتكتمل الصورة السيئة السمعة بإشاعة أن الروائي الأميريكي الشهير مارك توين قد أصيب بأزمة قلبية عقب مشاهدته لفريدة مظهر وهي ترقص ،زاد على ذلك الوفاة المفاجئة لكاثرين ديفين عام1908م مختنقة بالغاز تاركة وراءها ثروة من الرقص الخليع قدرت بمئتي ألف دولار وهو مبلغ أكثر من ضخم بمقاييس تلك الفترة وفي بلاد كانت تجتاحها حمى الذهب والحلم بالثراء السريع وسط مهاجرين فقراء لفظتهم بلادهم ،كانت هذه إشارة لأن تنتحل كل راقصة في حانة أو ماخور الاسم الذي جلب هذا الكم من الثراء على مدعيته الأولى فظهرت امرأة تتعرى في كل صالون وحان وفندق رخيص في أمريكا تدعي أنها مصر الصغيرة ولم يكن لفريدة مظهر بالتأكيد طاقة لملاحقة كل مدعية لشهرتها ،لكن فريدة مظهر حافظت على صورتها كفنانة محترمة ومؤدية لفن شرقي مبهر في مدينتها حتى أنها دعيت كأحد القامات الثقافية لترقص وهي في الثانية والستين في المعرض الذي أقامته شيكاغو بمناسبة مرور مئة عام على إنشاءها تحت عنوان مئة عام من التقدم عام1934م، ولم يظهر اسم فريدة مظهر سبيروبولس مرة أخرى إلا في عام1936م في أوراق دعوة قضائية رفعتها ضد شركة مترو جولدوين ماير منتجة فيلم "زيجفيلد العظيم" والذي ظهرت فيه شخصية مصر الصغيرة بشكل لم تره فريدة يليق بها وكتب في أوراق الدعوى أن الشركة لم تحصل على تصريح منها بصفتها مصر الصغيرة الأصلية من معرض1893م وأنها لم ترتدي يوماً الملابس التي ارتدتها الممثلة التي قامت بالدور أو قامت بالحركات التي قامت بها ،لكن الدعوى لم تكتمل نظراً لوفاة فريدة في العام1937م وشيعتها شيكاغو بجنازة مهيبة ومسيرة صامته ،وبوفاتها فتح الباب على مصراعيه لترسيخ الصورة النمطية للقاهرة الصغيرة وللرقص الشرقي في الذهن الجمعي الأميريكي بأفلام مثل "مصر الصغيرة1951م" من إنتاج يونيفيرسال وبطولة روندا فليمنج، وأغان مثل أغنية "مصر الصغيرة البينج واليانج1961م" التي غنتها فرقة كووسترز وغناها ألفيس بريسلي أيضاً واستمرت هذه الحمى في السبعينات والثمانينات فذكرت في أغنيات لواي ويلي هوبارد "حبيبتي ترقص مثل مصر الصغيرة" ،وهانك ويليام الذي ذكرها في أغنية بعنوان "امرأة عارية وزجاجة جعة" أما الأعمال الأدبية فقد ألف توماس ماكموهان رواية في نهايات القرن التاسع عشر بعنوان "أن تحب مصر الصغيرة" وبالطبع المسرحية التي عرفت باسم "شوارع القاهرة" أو "خادمة ريفية صغيرة" وعرضت في برودواي على مدى أعوام كل هذه الأعمال أضيفت هي أيضاً لأسطورة المرأة الخليعة التي كرست للصورة الاستشراقية واثبتت تفوق الشرق على الغرب وخلقت منها صورة نمطية امتزجت فيها ملامح الشرق على الغرب امتزجت فيها ملامح فريدة بخلاعة كاثرين مع حكايات كوتشيك فلوبير الجنسية، هذه هي مصر الصغيرة التي رسخت في أذهان الأميريكيين إلى يومنا هذا.












الواقعية المعاصرة ... الجمال أهم من الخبز - مقال شذى يحي المنشور بمجلة "المجلة "عدد سبتمبر2015

منذ بدء الخليقة كان مسعى الفنانين وهدفهم الأساسي فك طلاسم الكون وخلق عوالم موازية للعالم الذي عاشوا فيه ،عوالم ساحرة مستقاه من الأساطير والحكايات والقصص الديني وسرعان ما افتتن الفنانون بعوالمهم الخرافية هذه وأغرقوا في الانفصال عن واقعهم وبحلول عصر العلم والمخترعات سعى الفنان الثائر على الوهم والخرافة لتفكيك هذه العوالم الخرافيه والعالم الواقعي الذي يعيش فيه أيضاً بل وتفجيره في محاولات حثيثة لإيجاد مادة الخلق الأولى للكون والملامح التي صنعته وشكلته فحطم الطبيعة وأعاد تكوينها وتحليلها تارة ،وغاص في غياهب النفس البشرية تارة أخرى حتى وصل للعب بالعلاقات بين الخطوط والألوان المجردة ونغمياتها ، ومن هذه الثورة نبعت كل مدارس الحداثة التي اجمعت على احتقار الواقع المرئي والتعريض بالرسم الكلاسيكي والتشخيص بدعوى أنه إعادة خلق لما هو ملموس كما في الصورة الفوتوغرافية وتصاعد هذه الاتجاه وبلغ ذروته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة في أكاديميات الفنون ،ولكن الكثير من المفكرين المعاصرين والاساتذة وطلبة الفنون ثاروا على هذه النظرة وخاصة بعد أن رأوا كم الدمار الهائل في العالم فأرادوا التعبير عن واقعهم بفنهم  واكبت هذه الثورة ظهور كتاب الواقعية المعاصرة لمؤلفه "جورج لوكاس" في برلين الشرقيه عام 1958م ، والذي كان محاولة لإيجاد مقاربة جديدة للفلسفة الماركسية في الثقافة والفن تختلف عن مقاربة ستالين وترجمته للإنجليزية عام1960م، وبدأت ملامح إتجاهات الواقعية الجديدة بالظهورفي مختلف أنحاء العالم لتشكل جزءاً هاماً مما سمي فترة ما بعد التجريد في ستينيات القرن العشرين وللمفارقة كان للولايات المتحدة الأمريكية الحظ الأكبر من هذه المدارس والاتجاهات حيث تعد الواقعية المعاصرة Cotemporary Realism واحدة من أهم الاتجاهات الفنية في أميريكا ،وهذا الاتجاه الذي ضم في داخله أساليب ومدارس متعددة منذ 1960م حتى وقتنا الحالي يقوم على مبادئ بسيطة لكن عميقة أهمها على الإطلاق هو الذي وضعه أحد اهم منظري الحركة الناقد ستيفن كرين Stephen Crane وهو أن "الفنان الحقيقي هو الفنان الذي يترك لوحة تعبر عن زمنه الذي يعيشه" ،فالواقعية المعاصرة تشجع الفنان على أن ينتج فناً محملاً بخبرات البشر المستمدة من الطبيعة ومن الحياة الواقعية ومن وجهة نظر الواقعيين المعاصرين أن هذا الأسلوب الموضوعي هو أيضاً الأكثر قدرة على التفاعل مع اللون والشكل والخامة والإضاءة لأنه يوظفهم في خلق موضوع سواء يإيجاده أو بإحيائه وهكذا تكون قدرة الفنان على توظيف أدواته أكثر قوة لأنه يحكي ماوراء الحكاية وليس فقط يخلق تناغم بين مجموعات من الأشكال والخطوط والمساحات اللونية الجامدة، وهم يرون أن للفن دور هو خدمة البشرية من خلال إظهار نوعية ومظاهر الحياة التي تجمعنا كبشر في العمل الفني فلا يوجد مما هو أكثر تعبيراً عن قيم ثقافة ما وأفكار معتنقيها أكثر من الفن الذي يمثل خلاصة حياتهم على مختلف الأصعدة وليس معنى هذا أن الفنان يعيد تمثيل مشاهد من الحياة في لوحته دون أي فكرة على العكس ففلسفة الواقعية المعاصرة تقوم على أن الواقع له كيان خاص مستفل عن مفهومنا ونوقعاتنا له وعن ممارستنا اللغوية اليومية وما نؤمن به فكل هذه المفاهيم ليست ذات صلة بالواقع الذي يعتمد في جزأ منه على مايدور في عقول الآخرين وماحدث في الماضي ويحدث الآن في الحاضر المبادئ الحسابية التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية والقرارات التي يجب أن تتخذ وفقاً لما يعد أسس أخلاقية عن الأفكار المطروحة وما نراه مهماً ببساطة الواقعية كما يراها المعاصرون هي التعبير عن وجود العقل في العالم الملموس وما نراه واقعاً هو في الحقيقة استجابة العقل لما نراه حقائق ولذلك فكل ملاحظة جديدة يعبر عنها العمل الفني تقربنا أكثر لفنهم ماهية الواقع الحقيقي ، وعلى هذا فإن الواقعيين المعاصرين يختلفون مع المفهوم الكانطي في ان الواقعيةRealism هي ضد المثالية Idealism بل يرون أن الواقعية هي ضد اللاواقعية Antirealism وهو مصطلح يلخص كل مالا يمكن ملاحظته وتحليله بالنسبة لعقلنا "فللكون وجوده وكيانه المستقل والمكتمل والواقع هو ما نستطيع نحن تحليله منه".
علماً بأن الواقعية المعاصرة ليست إحياء بأي شكل من الأشكال لواقعية كوربيه وإنجر وأساتذة الفن الكلاسيكي رغم أنها تعتمد على القواعد الإغريقية في التصوير والنحت فهي واقعية نعم ولكنها واقعية بالمقاييس الجمالية للعصر الحديث واقعية تختلف عن تلك التي اهتمت بالبحث عن جوهر الجمال والجمال الأصيل في داخل كل عناصر اللوحة الواقعية التي كانت تبحث عن المثالية وعن الكمال ،وبينما كانت الواقعية الكلاسيكية تبحث عن الخلود فإن الواقعية المعاصرة  تبحث عن قضية تهم الجمهور وعن حالة يتواصل معها المشاهد في حياته اليومية أو في عالمه تؤثر فيه وترتبط به واقعية تسبر أغوار ما نعرفه من الكون وتناقشه وتتحدث عنه وربما هذا هو ما يفسر أن اغلب فناني الواقعية المعاصرة كانوا تجريديين في البداية ،وهذا لأن فلسفة الواقعية تتفق مع فلسفة الحداثة ومابعد الحداثة في كونها تسعى إلى الكشف عن ذلك الجانب غير المرئي وغير المحسوس في واقعنا ،ذلك الجانب الذي غالباً لا نلقي له بالاً وسط مشاغلنا اليومية رغم أنه يمثل أكبر الأثر فيها لكنها بالتأكيد تختلف في الأسلوب الذي تتبعه في إظهار هذا الجانب ، فوفقاً لرؤية كلاً من بيتر هارد(1908-1984م) وأندرو ويث(1917-2009م) مؤسسي حركة الواقعية الجديدة "إن الجمهور سأم من الأعمال الفنية التي تحتاج لكثير من الشرح والتبرير ويحتاج أن يتعرف بوضوح على ما يراه في العمل ويتفاعل معه على المستوى الإنساني أكثر من رغبته في التعامل مع المفاهيم فمدارس الحداثة وأيضاً ما بعد الحداثة هي مدارس فاشلة جاءت وليدة كوارث مرت بها البشرية في حربين عالميتين طاحنتين جاءتا بعد التبشير برخاء عصر العلم والمخترعات والتكنولوجيا الذي سيحل كل مشاكل البشر فنجم عنه الكثير من الدمار والأزمات الإجتماعية والإقتصادية مما فتح المجال أمام العقل البشري للأفكار العدمية والهدامة والساخرة وهو ما أتخذته فنون الحداثة ومابعد الحداثة لحده الأقصى" ، ومن وجهة نظرهم أيضاً أنه فيما يتعلق بالفن فبالتأكيد هناك ما هو أكثر من نافورة مارسيل دوشامب التي هي مجرد مرحاض ودوامات جاكسون بولك التي ليست أكثر من طرطشات لونية وأن الحل هو العودة إلى أساليب أساتذة فنون ما قبل الحداثة للتعبير عن قصص مرئية تعبر عن الحرية والحياة والجمال لأنه كما قال الكاتب الأمريكي د.ه.لورانس "تحتاج الروح البشرية للجمال أكثر من حاجتها للخبز".
وهكذا نشات الحركة التي أخذت مفهوم المعاصرة الذي طالما ارتبط بالحداثة ومابعد الحداثة وربطته بالتقاليد التقنية للأساتذة للتعبير عن الخبرات الحياتية والكونية وما يشغل البال في الحياة اليومية لتحتفل بالجمال والمغامرة والتجارب في حياتنا اليومية والتعبير عن الامتنان لكل ما ندرك أنه منحة الوجود لنا وهذا هو جوهر اختلاف الواقعية المعاصرة عن المدارس التي ظهرت في نفس الفترة كالفوتورياليزم "الهايبررياليزم حالياً" التي تميل إلى المبالغة والتضخيم والسخرية وتعكس بعد مفاهيمياً وعن واقعية مابعد الحداثة التي تحمل بعداً ميتافيزيقياً وتسعى لتدعيم الشخصية الفردية عبره ومن خلاله ، أما لوحة الواقعية المعاصرة فينظر إليها على أنها امتداد لمجتمعها وتفاعل ديناميكي معه ،وهي بعيدة كل البعد عن السوريالية رغم كونها تعالج جوانب غير محسوسة لأن السوريالية قامت على التضاد بين الحقيقة والحلم.
هذا وتتألف حركة الواقعية المعاصرة من اتجاهات عدة ويتبعها العديد من المدارس ولكنها تتفق في المبادئ الأساسية التي وضعها المؤسسون ، ومن أشهر الواقعيين المعاصرين ويليام بيلي(1930-    ) وهو رسام تشخيصي بالدرجة الأولى ويشغل كرسي التصوير في مدرسة الفنون بجامعة ييل المريكية وله مقتنيات في متحف نيويورك للفن الحديث ومتاحف بوسطن والمتحف القومي للفنون الجميلة في العاصمة واشنطن ويقول بيلي عن أعماله الفنيه "إن لوحتي ليست من الحياة الحقيقية ومع ذلك فهي أقتبست من موقف حقيقي من اشياء حقيقية لكني أنا من أعطيها الأدوار ومن تجميعاتها أصنع عقدة المشهد انني أرسم من ذاكرة الموقف الذي أصنعه في مخيلتي وأستكشفه على سطح اللوحة وقد استكشفه مرة أخرى مع المتلقي ومع ذلك فالأشياء التي أرسمها لا تحتوي ولا تمثل أية رموز العلاقات بينها هنا هي البطل وهي أهم من شخصيتها المنفردة هذه العلاقات تغير رؤية المشهد تماماً وتجعله حيوياً" .
وأيضاً هناك الرائد الذي عده النقاد الأميريكين أهم رسام تشخيص في الفترة من 1960وحتى 2000م وهو الفنان فيليب بيرلستين (1924م-       ) والذي يقتني أعماله أكثر من سبعين متحف على مستوى العالم وهو أيضاً استاذ في معهد نيويورك للفنون الجميلة ، وقد بدأ برليستين حياته الفنية بلوحات تنتمي للتجريدية التعبيرية ولكن سرعان ما أصبح من أهم فناني الواقعية المعاصر التي أعطته الحرية والمجال لأن يرسم الجسد العاري ليس كمصدر للجمال ولا تعبيراً عن الخصوبة بل كحقيقة كونية بكل بساطة على حقيقته بعيوبها ومحاسنها بعيدا عن الميثولوجيا والدين والتاريخ ،يرسمه بمفهوم القرن العشرين حيث يقبع الجسد تحت الأضواء المنسابة في زاوية الأستوديو التي تكشف حقيقته كتكوين وكتلة وخطوط ويبدوا هذا جلياً في لوحاته "موديلات ومرآة" فهي مثال واضح على نظرة بيرلستين للجسد كشكل مجرد .
أما ليا بيهنكي (1946م-      ) وهي ايضاً أستاذة في مدرسة نيويورك للفنون البصرية فقد وصفتها الناقدة فيرجينيا آن بونيتو بأنها الفنانة التي توظف معرفتها وخبرتها بالفن والعلم لإيجاد طريقة قياسية تعكس فهمها للكون ، فالفنانة التي درست التصميم الداخلي ودعمت دراستها بعد ذلك  بدراسات عن فنون العمارة في مدينة نيويورك وبدأت حياتها كنحاته تنحت تماثيل صرحية لكائنات تبدوا وكأنها تشق طريقها في الفضاء في محاولة منها لتحديد الفضاء بالشكل وليس العكس استغلت كل هذه المعارف والولع لترسملوحات استطاعت فيها أن تحدد هندسة العناصر وتجعلها تعكس الميكانيزم تاذي بداخلها وتوظفها لكي تتفحص الفضاء الداخلي والخارجي للأشياء وتظهر حركة الجمادات من خلال الظل والقدرات اللونية وأبعاد الشكل وقد لجأت في هذا لاستعمال خامة من أصعب الخامات استخداماً على الإطلاق وهي الألوان المائية لتعكس ذلك الحوار بين الثقافة والطبيعة ،بين ماصنعه الانسان وما لم تمسه يده في تمثيل الجوهر الحقيقي للواقعية المعاصرة المحتفية بالإنسان الحقيقي والتي ترى في هذا الاحتفاء الدور الحقيقي للفن الذي هو وسيلة لانسجام البشرية مع الكون .