السبت، 10 أكتوبر 2015

الواقعية المعاصرة ... الجمال أهم من الخبز - مقال شذى يحي المنشور بمجلة "المجلة "عدد سبتمبر2015

منذ بدء الخليقة كان مسعى الفنانين وهدفهم الأساسي فك طلاسم الكون وخلق عوالم موازية للعالم الذي عاشوا فيه ،عوالم ساحرة مستقاه من الأساطير والحكايات والقصص الديني وسرعان ما افتتن الفنانون بعوالمهم الخرافية هذه وأغرقوا في الانفصال عن واقعهم وبحلول عصر العلم والمخترعات سعى الفنان الثائر على الوهم والخرافة لتفكيك هذه العوالم الخرافيه والعالم الواقعي الذي يعيش فيه أيضاً بل وتفجيره في محاولات حثيثة لإيجاد مادة الخلق الأولى للكون والملامح التي صنعته وشكلته فحطم الطبيعة وأعاد تكوينها وتحليلها تارة ،وغاص في غياهب النفس البشرية تارة أخرى حتى وصل للعب بالعلاقات بين الخطوط والألوان المجردة ونغمياتها ، ومن هذه الثورة نبعت كل مدارس الحداثة التي اجمعت على احتقار الواقع المرئي والتعريض بالرسم الكلاسيكي والتشخيص بدعوى أنه إعادة خلق لما هو ملموس كما في الصورة الفوتوغرافية وتصاعد هذه الاتجاه وبلغ ذروته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة في أكاديميات الفنون ،ولكن الكثير من المفكرين المعاصرين والاساتذة وطلبة الفنون ثاروا على هذه النظرة وخاصة بعد أن رأوا كم الدمار الهائل في العالم فأرادوا التعبير عن واقعهم بفنهم  واكبت هذه الثورة ظهور كتاب الواقعية المعاصرة لمؤلفه "جورج لوكاس" في برلين الشرقيه عام 1958م ، والذي كان محاولة لإيجاد مقاربة جديدة للفلسفة الماركسية في الثقافة والفن تختلف عن مقاربة ستالين وترجمته للإنجليزية عام1960م، وبدأت ملامح إتجاهات الواقعية الجديدة بالظهورفي مختلف أنحاء العالم لتشكل جزءاً هاماً مما سمي فترة ما بعد التجريد في ستينيات القرن العشرين وللمفارقة كان للولايات المتحدة الأمريكية الحظ الأكبر من هذه المدارس والاتجاهات حيث تعد الواقعية المعاصرة Cotemporary Realism واحدة من أهم الاتجاهات الفنية في أميريكا ،وهذا الاتجاه الذي ضم في داخله أساليب ومدارس متعددة منذ 1960م حتى وقتنا الحالي يقوم على مبادئ بسيطة لكن عميقة أهمها على الإطلاق هو الذي وضعه أحد اهم منظري الحركة الناقد ستيفن كرين Stephen Crane وهو أن "الفنان الحقيقي هو الفنان الذي يترك لوحة تعبر عن زمنه الذي يعيشه" ،فالواقعية المعاصرة تشجع الفنان على أن ينتج فناً محملاً بخبرات البشر المستمدة من الطبيعة ومن الحياة الواقعية ومن وجهة نظر الواقعيين المعاصرين أن هذا الأسلوب الموضوعي هو أيضاً الأكثر قدرة على التفاعل مع اللون والشكل والخامة والإضاءة لأنه يوظفهم في خلق موضوع سواء يإيجاده أو بإحيائه وهكذا تكون قدرة الفنان على توظيف أدواته أكثر قوة لأنه يحكي ماوراء الحكاية وليس فقط يخلق تناغم بين مجموعات من الأشكال والخطوط والمساحات اللونية الجامدة، وهم يرون أن للفن دور هو خدمة البشرية من خلال إظهار نوعية ومظاهر الحياة التي تجمعنا كبشر في العمل الفني فلا يوجد مما هو أكثر تعبيراً عن قيم ثقافة ما وأفكار معتنقيها أكثر من الفن الذي يمثل خلاصة حياتهم على مختلف الأصعدة وليس معنى هذا أن الفنان يعيد تمثيل مشاهد من الحياة في لوحته دون أي فكرة على العكس ففلسفة الواقعية المعاصرة تقوم على أن الواقع له كيان خاص مستفل عن مفهومنا ونوقعاتنا له وعن ممارستنا اللغوية اليومية وما نؤمن به فكل هذه المفاهيم ليست ذات صلة بالواقع الذي يعتمد في جزأ منه على مايدور في عقول الآخرين وماحدث في الماضي ويحدث الآن في الحاضر المبادئ الحسابية التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية والقرارات التي يجب أن تتخذ وفقاً لما يعد أسس أخلاقية عن الأفكار المطروحة وما نراه مهماً ببساطة الواقعية كما يراها المعاصرون هي التعبير عن وجود العقل في العالم الملموس وما نراه واقعاً هو في الحقيقة استجابة العقل لما نراه حقائق ولذلك فكل ملاحظة جديدة يعبر عنها العمل الفني تقربنا أكثر لفنهم ماهية الواقع الحقيقي ، وعلى هذا فإن الواقعيين المعاصرين يختلفون مع المفهوم الكانطي في ان الواقعيةRealism هي ضد المثالية Idealism بل يرون أن الواقعية هي ضد اللاواقعية Antirealism وهو مصطلح يلخص كل مالا يمكن ملاحظته وتحليله بالنسبة لعقلنا "فللكون وجوده وكيانه المستقل والمكتمل والواقع هو ما نستطيع نحن تحليله منه".
علماً بأن الواقعية المعاصرة ليست إحياء بأي شكل من الأشكال لواقعية كوربيه وإنجر وأساتذة الفن الكلاسيكي رغم أنها تعتمد على القواعد الإغريقية في التصوير والنحت فهي واقعية نعم ولكنها واقعية بالمقاييس الجمالية للعصر الحديث واقعية تختلف عن تلك التي اهتمت بالبحث عن جوهر الجمال والجمال الأصيل في داخل كل عناصر اللوحة الواقعية التي كانت تبحث عن المثالية وعن الكمال ،وبينما كانت الواقعية الكلاسيكية تبحث عن الخلود فإن الواقعية المعاصرة  تبحث عن قضية تهم الجمهور وعن حالة يتواصل معها المشاهد في حياته اليومية أو في عالمه تؤثر فيه وترتبط به واقعية تسبر أغوار ما نعرفه من الكون وتناقشه وتتحدث عنه وربما هذا هو ما يفسر أن اغلب فناني الواقعية المعاصرة كانوا تجريديين في البداية ،وهذا لأن فلسفة الواقعية تتفق مع فلسفة الحداثة ومابعد الحداثة في كونها تسعى إلى الكشف عن ذلك الجانب غير المرئي وغير المحسوس في واقعنا ،ذلك الجانب الذي غالباً لا نلقي له بالاً وسط مشاغلنا اليومية رغم أنه يمثل أكبر الأثر فيها لكنها بالتأكيد تختلف في الأسلوب الذي تتبعه في إظهار هذا الجانب ، فوفقاً لرؤية كلاً من بيتر هارد(1908-1984م) وأندرو ويث(1917-2009م) مؤسسي حركة الواقعية الجديدة "إن الجمهور سأم من الأعمال الفنية التي تحتاج لكثير من الشرح والتبرير ويحتاج أن يتعرف بوضوح على ما يراه في العمل ويتفاعل معه على المستوى الإنساني أكثر من رغبته في التعامل مع المفاهيم فمدارس الحداثة وأيضاً ما بعد الحداثة هي مدارس فاشلة جاءت وليدة كوارث مرت بها البشرية في حربين عالميتين طاحنتين جاءتا بعد التبشير برخاء عصر العلم والمخترعات والتكنولوجيا الذي سيحل كل مشاكل البشر فنجم عنه الكثير من الدمار والأزمات الإجتماعية والإقتصادية مما فتح المجال أمام العقل البشري للأفكار العدمية والهدامة والساخرة وهو ما أتخذته فنون الحداثة ومابعد الحداثة لحده الأقصى" ، ومن وجهة نظرهم أيضاً أنه فيما يتعلق بالفن فبالتأكيد هناك ما هو أكثر من نافورة مارسيل دوشامب التي هي مجرد مرحاض ودوامات جاكسون بولك التي ليست أكثر من طرطشات لونية وأن الحل هو العودة إلى أساليب أساتذة فنون ما قبل الحداثة للتعبير عن قصص مرئية تعبر عن الحرية والحياة والجمال لأنه كما قال الكاتب الأمريكي د.ه.لورانس "تحتاج الروح البشرية للجمال أكثر من حاجتها للخبز".
وهكذا نشات الحركة التي أخذت مفهوم المعاصرة الذي طالما ارتبط بالحداثة ومابعد الحداثة وربطته بالتقاليد التقنية للأساتذة للتعبير عن الخبرات الحياتية والكونية وما يشغل البال في الحياة اليومية لتحتفل بالجمال والمغامرة والتجارب في حياتنا اليومية والتعبير عن الامتنان لكل ما ندرك أنه منحة الوجود لنا وهذا هو جوهر اختلاف الواقعية المعاصرة عن المدارس التي ظهرت في نفس الفترة كالفوتورياليزم "الهايبررياليزم حالياً" التي تميل إلى المبالغة والتضخيم والسخرية وتعكس بعد مفاهيمياً وعن واقعية مابعد الحداثة التي تحمل بعداً ميتافيزيقياً وتسعى لتدعيم الشخصية الفردية عبره ومن خلاله ، أما لوحة الواقعية المعاصرة فينظر إليها على أنها امتداد لمجتمعها وتفاعل ديناميكي معه ،وهي بعيدة كل البعد عن السوريالية رغم كونها تعالج جوانب غير محسوسة لأن السوريالية قامت على التضاد بين الحقيقة والحلم.
هذا وتتألف حركة الواقعية المعاصرة من اتجاهات عدة ويتبعها العديد من المدارس ولكنها تتفق في المبادئ الأساسية التي وضعها المؤسسون ، ومن أشهر الواقعيين المعاصرين ويليام بيلي(1930-    ) وهو رسام تشخيصي بالدرجة الأولى ويشغل كرسي التصوير في مدرسة الفنون بجامعة ييل المريكية وله مقتنيات في متحف نيويورك للفن الحديث ومتاحف بوسطن والمتحف القومي للفنون الجميلة في العاصمة واشنطن ويقول بيلي عن أعماله الفنيه "إن لوحتي ليست من الحياة الحقيقية ومع ذلك فهي أقتبست من موقف حقيقي من اشياء حقيقية لكني أنا من أعطيها الأدوار ومن تجميعاتها أصنع عقدة المشهد انني أرسم من ذاكرة الموقف الذي أصنعه في مخيلتي وأستكشفه على سطح اللوحة وقد استكشفه مرة أخرى مع المتلقي ومع ذلك فالأشياء التي أرسمها لا تحتوي ولا تمثل أية رموز العلاقات بينها هنا هي البطل وهي أهم من شخصيتها المنفردة هذه العلاقات تغير رؤية المشهد تماماً وتجعله حيوياً" .
وأيضاً هناك الرائد الذي عده النقاد الأميريكين أهم رسام تشخيص في الفترة من 1960وحتى 2000م وهو الفنان فيليب بيرلستين (1924م-       ) والذي يقتني أعماله أكثر من سبعين متحف على مستوى العالم وهو أيضاً استاذ في معهد نيويورك للفنون الجميلة ، وقد بدأ برليستين حياته الفنية بلوحات تنتمي للتجريدية التعبيرية ولكن سرعان ما أصبح من أهم فناني الواقعية المعاصر التي أعطته الحرية والمجال لأن يرسم الجسد العاري ليس كمصدر للجمال ولا تعبيراً عن الخصوبة بل كحقيقة كونية بكل بساطة على حقيقته بعيوبها ومحاسنها بعيدا عن الميثولوجيا والدين والتاريخ ،يرسمه بمفهوم القرن العشرين حيث يقبع الجسد تحت الأضواء المنسابة في زاوية الأستوديو التي تكشف حقيقته كتكوين وكتلة وخطوط ويبدوا هذا جلياً في لوحاته "موديلات ومرآة" فهي مثال واضح على نظرة بيرلستين للجسد كشكل مجرد .
أما ليا بيهنكي (1946م-      ) وهي ايضاً أستاذة في مدرسة نيويورك للفنون البصرية فقد وصفتها الناقدة فيرجينيا آن بونيتو بأنها الفنانة التي توظف معرفتها وخبرتها بالفن والعلم لإيجاد طريقة قياسية تعكس فهمها للكون ، فالفنانة التي درست التصميم الداخلي ودعمت دراستها بعد ذلك  بدراسات عن فنون العمارة في مدينة نيويورك وبدأت حياتها كنحاته تنحت تماثيل صرحية لكائنات تبدوا وكأنها تشق طريقها في الفضاء في محاولة منها لتحديد الفضاء بالشكل وليس العكس استغلت كل هذه المعارف والولع لترسملوحات استطاعت فيها أن تحدد هندسة العناصر وتجعلها تعكس الميكانيزم تاذي بداخلها وتوظفها لكي تتفحص الفضاء الداخلي والخارجي للأشياء وتظهر حركة الجمادات من خلال الظل والقدرات اللونية وأبعاد الشكل وقد لجأت في هذا لاستعمال خامة من أصعب الخامات استخداماً على الإطلاق وهي الألوان المائية لتعكس ذلك الحوار بين الثقافة والطبيعة ،بين ماصنعه الانسان وما لم تمسه يده في تمثيل الجوهر الحقيقي للواقعية المعاصرة المحتفية بالإنسان الحقيقي والتي ترى في هذا الاحتفاء الدور الحقيقي للفن الذي هو وسيلة لانسجام البشرية مع الكون .







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق