السبت، 1 أكتوبر 2016

"أحمد فؤاد سليم ...العزف على أوتار الحرف واللون" مقال "شذى يحيى " بمجلة الهلال عدد أكتوبر 2016 في ذكرى الفنان الكبير

فنان حقيقي تعد سيرة حياته بمثابة المرآة لحياة جيل من أبناء مصر المخلصين ومنجزاتهم بأحلامهم وأوهامهم أحياناً بهزائمهم وإنكساراتهم وأيضاً بإنتصراتهم وأفراحهم وحتى بأحزانهم وأتراحهم وضمت أعماله الفنية إلى جانب هذا ملخص واف لإبداعاتهم على مستوى الفكر والثقافة والأدب والموسيقى والتشكيل والتراث وتسجيل لكفاح هذا الجيل من أجل الحرية والتقدم والرفاه لأبناء وطنهم وبهذا كانت أعماله الفنية بمثابة صراع بين الواقع كما هو معاش والواقع كما ينبغي أن يعاش ،صراع بين الحلم النابع من تراكم الخبرات الثقافية وقسوة وقبح الحياة اليومية ولهذا كان أحمد فؤاد سليم ( 1936م -2009م ) فناناً حقيقياً لأنه كان إبن جيله وحلمه.
كُتب في مقدمه سيرته الذاتية "رسام وناقد وباحث وشاعر إضطلع بالعديد من الوظائف الثقافية المهمة وأشرف وشارك في تنظيم العديد من الأنشطة التشكيلية وأنشأ العديد من الفاعليات والمؤسسات الفنية" ، ولكنه كان في البدء والمنتهى مصور عاشق للصورة مؤمن بقدرتها على الفعل والوصول للمتلقي أكثر من أية وسيلة أخرى لأنها على حد قوله "تنسخ السائد أو تؤكده أو تغيره أو تنفيه أو تعيد خلقه وهي حين تدخل إليك فإنها تتسرب إلى العقل الفاعل وذلك أن الصورة هي بذاتها علامة قادرة على إختراق الخيال بدون لغة الصوت واللسان" ،فالصورة في رأي سليم كما كان يحب إمضاء لوحاته هي علامة تمثل برهاناً على وجودنا وليست بمجرد غرض تزييني ولهذا كرس كل طاقاته وقدراته ومواهبه لبلورة هذه العلامة في لوحاته موظفاً كل معارفه التقنية والبحثية وخبراته الإنسانية في خلق صورة تجمع في جنباتها جزء من رؤيته لمجتمعه ومايدور حوله وتتواصل مع الوجود الكوني لتظهر الجدلية بين المتناهي واللامتناهي ولكنها تحافظ في نفس الوقت على التفاعل مع المتلقي ولا تتعالى عليه فسليم جعل من سطح لوحته كائناً حياً في حالة إشتباك وحوار وجدل مع المتلقي ومعه هو كمبدع ومع مجتمعه وعالمه المحيط بل أيضاً مع الوجود الكلي حيث كان مؤمناً أن الصورة هي الوسيط الأمثل للتفاعل مع هذا الجدل والدخول فيه أو كما يقول " نتحدث عن الصورة قدرتها على تبديد معالم الحقيقة والواقع أو على مطابقة الواقع أو الإلتباس معه أو تأكيده بل وعن خاصيتها في خلق طبيعة ثانية غير تلك التي نحسها فلا الشعر ،ولا المسرح ،ولا الرواية أو المسرح والسينما أو الموسيقى وغيرها بقادر أي منها على حفز مشاعر مجتمع بحاله بمثل تلك الحاكمية التي تملكها الصورة من تأثير على مشاهديها" ، ربما كان سليم هنا يعني أن لذة الصدمة الأولى واالمباغته والدهشة البصرية وكذلك القدرة على تكثيف المعنى في مساحة محدودة وأيضاً تحفيز الخيال ليرى أكثر مما يعكسه واقع ثنائية البعد يجعل للصورة تأثبراً أقوى على المتلقي وهو الذي دفعه إلى محاولة تجريد كل الفنون الأخرى وتحويلها لرؤية بصرية والتأكيد على الجدل كما سعى أيضاً لتأكيد فكرة إنقسام العالم ووحدته من خلال التأكيد على مفهوم الحركة الدائرية والخطوط المنحنية المستوحاة من تجريد الحرف العربي بجمالياته في الإبداع والوجود والتجرد والمثال ، فالحرف العربي يجمع بين المادي والمجرد في إستداراته وإنحناءاته وحتى إستقامته كما في حرف الألف كما أن التفافاته المميزة تخلق نوع من تداعيات الجرس الصوتي سمعياً في الذاكرة عند رؤيتها فيتحول بهذا إستيحاء الحرف لرمزية مطلقة يتحدد أثرها بقدرة المشاهد المتلقي على التأثر والإستيعاب ، والحرف وحدة مستقلة بذاتها ولكن لا مدلول لها خارج سياق لغوي تماماً كالنغمة لا معنى لها خارج اللحن ولذلك يمكن إعتبار لوحة سليم مقطوعة موسيقية أو قصيدة شعرية لابد لفهمها وتذوقها أن تعامل كوحدة واحدة على تنوع مكوناتها وتضادها وصخب الصراع الواضح فيما بينها والذي يظهر جلياً في هذه الخطوط اللولبية التي تعكس طبيعة الخط العربي الأفقية متجانسة مع ما ينبثق منها من إيقاعات رأسية مستوحاة من النغمية الموسيقية لتعمق إحساس المشاهد باللولبية أكثر ليفقد بهذا الحرف صلته تماماً باللغة ويتجرد متحولاً إلى حركة ديالكتيكية تعكس إستمرارية ووحدة تجمع بين العناصر المتنوعة للتكوين وتصبح بهذه الإلتفافات مجالاً لحركة ذهنية جدلية تخلق زخماً روحياً ذا طبيعة خاصة معبراً عن واقعنا وحضارتنا المعاصرة في ذاكرة المتلقي ، ولتقوية الجدل والصراع في اللوحة لجأ سليم إلى طبقات الألوان التي رتبها في تنويعات بين البارد والساخن والمحايد وكأنه يعزف لحناً تتنوع نغماته بين التونات العالية والمنخفضة ولحظات السكون ليقوي إحساس الحركة للخطوط المرسومة فوقه في دراما بصرية قوية تحافظ على الوحدة من خلال بنية إيقاعية تعتمد على الشفافيات أحياناً وعلى العجائن والملامس في أحيان أخرى وعلى سمك الخط المحدد للمساحة اللونية ،وهذه البنية كان الهدف الأساس منها الحفاظ على "التنوع في الوحدة" لتحقيق الإنسجام في اللوحة وذلك بإستخدام الألوان في سياق لحني تحكمه الخطوط فلوحة سليم دائماً ما تميزت ببنية أرابيسكية لحنية متجانسة تتخللها ومضات من الطاقة ناجمة عن الصراع الجدلي تدهش المتلقي وتحفزه للتفاعل معها وكشف مكامن القيمة فيها ،فهي كما قال عنها الناقد الأسباني جوليان جاييجو في رده على سؤال حول سبب إعطاء سليم ( غير الأكاديمي ) الجائزة الكبرى لبينالي القاهرة الدولي الثالث عام 1988م "زرنا موقع العرض ثلاثة أيام متوالية ،وعلى فترات مختلفة في الضوء النهاري ،والضوء الليلي ،واتفقنا بالإجماع على أن الومضة تتزايد كل مرة ،لقد صعقت من الوهلة الأولى للتجانس والتكامل في لوحات هذا الفنان الذي يحمل قيمة عالمية".
هذه هي اهم الملامح التي ميزت أسلوب أحمد فؤاد سليم منذ بداياته في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات وحتى نهاية رحلته في اواخر العقد الأول من الألفية ، وإن كانت مراحلة الأولى التي عكست نضجاً مبكراً قد تميزت بالتجريب في الخامات والمسطحات كما أظهرت شغفاً بتجريب اللعب بالمفردات الشعبية النوبية ومدارس التجريد والتشخيص على حد سواء ،كذلك أنتج سليم في تلك الفترة لوحات حروفية بعضها بخطوط رأسية والبعض الآخر بخطوط أفقية وظهرت في هذه المرحلة أيضاً شخوصه المحورة السابحة في فضاء اللوحة ووحداته الزخرفية المستوحاة من فن الأرابيسك كذك ظهرت في تلك الفترة الكثير من التقسيمات الهندسية اللونية على سبيل المثال أن يكون نصف اللوحة بلون ثم يقسم النصف الآخر إلى لونين آخرين أو ثلثها بلون تسبح شخوصه وكائناته فوقه والثلثين بلون آخر وغالباً ما كانت تسيطر على هذه التقسيمات الألوان الباردة وإن كان أحياناً يكسر هذه القاعدة بإستعمال اللون الأحمر أو البرتقالي ،مع ملاحظة أن سليم إنشغل في تلك الفترة برسومات المخطوطات في مقامات الحريري للواسطي التسعة والتسعين حيث أسره مفهوم الزمن فيها وحاول تطبيقه بأن ينتج لوحة زمانية ولكن لازمانية صالحة الآن لجميع الآنات كما وصف في احد مقالاته فكانت دراسته عن الأساليب الفنية في رسوم المنمنمة ومحاولة تجريدها والتجريب والتنويع على هذه الفكرة هو أهم ماميز مرحلة الستينات والسبعينات لديه.
أما في الثمانينات فقد كانت لوحات سليم أقرب إلى الهم العام حيث أذهلته وآلمته الحرب في لبنان ورآها ملخص لكل إنكسارات وإندحارات الأمة والوطن خاصة بعد مذبحة صبرا وشاتيلا كانت عناصره وشخوصه تخوض صراعاً من خلف كتل تشبه الكانتونات والتحصينات والمناطق الطائفية التي قسمت لبنان ومزقته إلى أشلاء وحفلت لوحاته بتجمعات لما يشبه الجثث البشرية التي تفصلها عن بعضها بحار وبرك من الدماء كان إنتاجه الطباعي والرسم بالأحبار غزيراً في تلك الفترة والصراع في أعماله يغلب على الجدل ،في الثمانينات أيضاً حصل سليم على العديد من الجوائز والتكريمات من أهمها جائزة بينالي القاهرة الثالث الكبرى عن عشرة أعمال شارك بها وكانت هذه هي المرة الثانية التي يحصل على الجائزة فنان غير أكاديمي بعد سيف وانلي والذي سبق سليم لهذا الشرف بعشر أعوام وقد أعقب فوزه بالجائزة جدل ولغط لكونه من خارج الوسط الأكاديمي مما دفع رئيس لجنه تحكيم البينالي في ذلك الوقت الفنان الكبير عز الدين حمودة إلى الصياح في وجه الجميع قائلاً "إن الذي حصل على الجائزة الكبرى هو فنان مصري موهوب ولو أتيحت له الفرصه لأصبح فناناً عالمياً مثل الذين نراهم في كتب الفن " وبالفنان الكبير حسين بيكار عضو لجنة التحكيم للتصريح قائلاً " أنا مش هأكتب روشته للفنان عشان يعرف إزاي ينتج لوحة فنية إن خبرتنا وعلومنا هي التي تعرف مكامن القيمة " .
أعقب هذا مرحلة التسعينات وهي مرحلة النضج والتمكن الأسلوبي في تجربة سليم الفنية ففي هذه المرحلة إستطاع سليم أن يبلور أسلوبه الموسيقي الخاص على سطح اللوحة وأن ينتج لوحات ممتعة كعازفي الأوركسترا ومجموعات الموسيقين بالأبيض والأسود كما أصبحت جملته الموسيقية اللونية أكثر إختصاراً وتشويقاً وأكثر روحانية وقرباً من المتلقي في نفس الوقت أصبحت اللوحات أكثر نعومة وإنسجاماً وإن لم تتخلى عن الجدلية والقدرة على إدهاش المتلقي وامتزجت هذه الحالة الجديدة بلمسة بدائية مرحة في بدايات الألفية وإن لم يتخلى فيها عن إستدارة الخطوط والحركة الدائرية كما علا الحس الموسيقي أكثر فأكثر في هذه الأعمال مثل الفيولينة 2004م والعود في نفس السنة والأوركسترا لم يتخلى سليم عن تقنياته العالية ولا توازن البناء القوي الذي يتميز به بل أصبح أكثر حساسية للون واكثر إقتصاداً في إستخدامه وكذلك الخط أصبح أقوى وأكثر لولبية وأميل للتجريد كما فأصبحت أعماله أكثر إندماجاً مع الطبيعة والكون ليبدو وكأنه وصل لصيغة أكثر تصالحاً مع الكون وإن ظل يشاكسه حتى في آخر لوحاته التي لم تكتمل صيغة للزمن المركب كما كان يطلق عليه في وصفه لزمن المنمنمة زمن مستعار من الماضي متفاعل مع الزمن الحاضر أما الزمن الأخير فهو الذي يعكسه حضورنا نحن كمشاهدين ويبدو وكأنه وجود متضاعف أي في كونه طاقة متفاعلة متحررة من المكان ومتبادلة في آناتها الزمنية مع القيمة حالة فنية لطالما سعى غلى تحقيقها ونجح في النهاية قبل أن يغادر عالمنا في الثالث من أكتوبر عام2009م ، وبهذا إنتهت رحلة الفنان الذي قال يوماً "علمني الزمن ان الصورة والكلمة هما خلاصي من هذا العالم " ،رحل تاركاً لنا شهادة على منجز ثقافي موثقاً بالكلمة والصورة على حد سواء.