السبت، 30 مايو 2015

"مصر... بين السماء والأرض" - شذى يحي - مجلة المجلة عدد أبريل2015




ظل التحليق في الفضاء حلماً يراود البشرية منذ فجر الحضارات الأولى وأصبح هذا الحلم مثيراً لمخيلة المبدعين والشعراء والمخترعين والمغامرين على مر التاريخ ولعل أسطورة إيكاروس وحكاية عباس بن فرناس وتلك الهالات من القدسية التي أضفاها القدماء على الطيور حامله الرسائل بين السماء والأرض أبلغ الأدله على ذلك ؛ وعندما حقق الإنسان حلمه وحلق في السماء بالمنطاد أولاً ثم بالطائرات بعد ذلك نمت لديه رغبة جديدة في أن يخلد المشاهد التي رآها بعينيه في لحظات نادره طوع فيها قوانين الطبيعه وتحرر من قيود الجاذبية الأرضية ويوثقها مشاركاً إياها مع غيره من البشر الذين لم يتسنى لهم تجربة هذا الشعور وهذا هو ما فعله الفرنسي جاسبار فيلكس تورناشون عندما صور لقطات لباريس من منطاده في العام 1858م كانت هي الأولى في تاريخ البشرية مفتتحاً بها عصر التصوير الجوي وتوالت بعد ذلك ملاحم الرواد في تصوير أركان المعمورة من الجو.
والنمساوي تيودور كوفلر واحداً من أهم هؤلاء الرواد الذين ظلوا مجهولين ولم ينالوا حظهم من إلقاء الضوء والتكريم وظل منجزه في هذا المجال مجهولاً لفترة طويلة حتى أقامت جامعة ميلانو في الفترة من الحادي عشر من فبراير وحتى الثالث عشر من مارس معرضاً فوتوغرافياً بعنوان "مصر من السماء 1914م – تيودور كوفلر الرائد- السجين –المحترف" ، وتضمن هذا المعرض العرض الرسمي الأول لمجموعة صوره ال(21) التي التقطها لأهرامات الجيزة ومعالم أثرية في الأقصر والبر الغربي وتعد الأولى التي أخذت لهذه المعالم من طائرة ومن أوائل الصور التي أخذت من الطائرات عموماً ، أيضاً هي الأولى على الإطلاق بالنسبة للمعالم الأثرية في الأقصر ولكنها ليست الأولى للأهرامات فقد سبق أن صورها السويسري إدوارد سبلتريني من منطاد في العام1904م وإن كانت هذه الصور قد أخذت لأغراض العرض في معارض فنيه وليس لها هدف توثيقي ولم تأتي في إطار مشروع متكامل كصور كوفلر التي التقطت قبل ستة أعوام كاملة من المشروع الذي قام به عالم المصريات جيمس بريستيد في عام1920م لتوثيق الآثار المصرية من الجو بمساعدة سلاح الجو البريطاني بينما لم يتوفر لكوفلر في فترة فجر التصوير الجوي ومراحله التجريبية أي دعم على الإطلاق بل كان جهداً ذاتياً خالصاً منه ، وهو ما يكسب مجموعة كوفلر هذه أهمية كبرى بالنسبة لعلماء المصريات وبالنسبة لتاريخ التصوير الفوتوغرافي خاصة مع الحرفية العالية التي أخذت بها الصور والوضوح الفائق رغم الامكانات الضعيفة ، وقد صاحب العرض الرئيسي "مصر من السماء1914" عرض لمجموعة أخرى من الصور أخذها كوفلر أثناء احتجازه في مالطا اثناء الحرب العالمية الأولى كسجين حرب في الفترة من نهاية1914م وحتى 1916م ووثق فيه الحياة داخل معسكر الاعتقال وانشطة السجناء والأبنية المحيطة وتعد هذه الصور توثيقاً لجانب آخر من الحرب العالمية الأولى أقل قسوة من صور الدمار والقتلى والخنادق وإن كان ليس بأقل مأساوية ؛ وعرض أخر لمجموعة أخذها كوفلر في القاهرة في الفترة من1916م وحتى عام1950م حيث أدار وامتلك على مدار هذه الأعوام العديد من الاستوديوهات وتأتي أهمية هذه الصور في أنها تعكس مظاهر الحياة في القاهرة قبل ثورة 1952م .

وقد جاء هذا المعرض الذي افتتحه السفير علي الحلواني "قنصل مصر بميلانو" كتتويج لعشر سنوات من البحث والدراسه قام بها فريق عمل من جامعة ميلانو تقوده الأستاذة باتريزيا بياسينتني Patrizia Piacentini عالمة المصريات وذلك على خلفية تبرع أحد رعاة الجامعة بألبوم كوفلر الذي كان في حيازة عالم المصريات الإيطالي ألكسندر فاريللي لأرشيف الجامعة ؛ الغرابة في أن أحداً لا يعلم ماهو الدافع الذي دفع كوفلر المولود في إنسبروك – اقليم تيرول"النمسا" في 27يوليو 1877م لأن يقرر في نهايات 1903م أن يرحل إلى القاهرة ويعمل مع مصور مغمور هو" ر. بول" ويتزوج ويستقر تماماُ في القاهرة 1904م لعله البحث عن الثروة ولكنه لم يفكر في خوض غمار مغامرة التصوير من الطائرة إلا في مطلع العام 1914م ، ربما كان السبب تزايد عدد المنقبين عن الآثار والمولعين بسحر الشرق والمغامرين الباحثين عن الكنوز في مصر أثناء تلك الفترة ؛ في ظل وجود هوراشيو كتشنر مندوباً سامياً لبريطانيا العظمى (1911م-1914م) وما أحاط به من هالة أسطورية بعد معركة الخرطوم هذه الهالة التي طمأنت الأوروبيين على وجودهم في مصر وكذلك الوضع الخاص للأجانب الذي فرضته قوانين ذلك الوقت وما اتبع ذلك من الاقبال على صور الآثار المصرية سواء من قبل السياح والمنقبين في مصر أو المبهورين في أوروبا الذين أولعوا بالكروت التذكارية ومجموعات الصور التي كان الأثرياء يرسلونها لذويهم من أماكن قضاءهم لأجازاتهم الشتوية في القاهرة والأفصر وأسوان وقد أدى هذا الإقبال إلى إنشاء شركات ومطابع لكروت البوستال مثل ليشتنشتين وهراري ومكتبة حورس ولهذه الأسباب فإن صوراً للمعالم الأثرية من الجو كانت بالتأكيد ستلاقي رواجاً  كبيراً  في هذه السوق المزدهرة وربما ما أغرى كوفلر أيضاً النجاح والشهرة والثراء الذي حققه سبليتريني بصوره التي كان يأخذها من المنطاد خاصة أن صوره للجيزة بالذات حققت نجاحاً هائلاً في المعارض التي عرضت بها في أوروبا لعل هذا هو مادفع كوفلر لأن يذهب إلى مطار هليوبوليس الذي كان  في تلك الفترة قبلة للطيارين المغامرين الذين كانوا يحاولون أن يقطعوا بالطائرات أطول مسافات ممكنة ويستقل طائرة فرنسية من طراز نيوبورت 4جي Nieuport VI G بقيادة الطيار مارك بونيير ليلتقط الصور الأولى لمجموعته فوق الجيزة وكان ذلك في الأول من يناير1914م وقد نشرت مجلة ايللستريشن الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 31يناير 1914م الصورة الأولى للأهرامات من الطائرة وكتبت تحتها صورة لأهرامات الجيزة من طائرة قادها الطيار مارك بونيير وقام بالتقاطها المصور ت. كوفلر والثابت أن كوفلر، الذي تتبع مجرى نهر النيل من الجيزة إلى الجنوب مستخدماً طائرة أخرى من طراز فارمان إتش إف20 Farman HF20 بقيادة لويس أوليفر مستكملاً مجموعته بتصوير معابد الأقصر والبر الغربي في مايو1914م لكن الأحداث المتواترة لم تمهل كوفلر أو تعطيه الفرصة ليستفيد بانجازه فبعد ذلك بأشهر قلائل حدث انقلاب في المناخ السياسي في العالم على خلفية مقتل أرشيدوق النمسا واندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى وعزل الخديوي عباس حلمي وتنصيب السلطان حسين كامل وإعلان مصر محمية للتاج البريطاني في ديسمبر1914م وما تترتب على ذلك من القبض على كل رعايا الدول المعادية وإعتبارهم سجناء حرب وترحيلهم إلى معسكر اعتقال حمل اسم سانت كليمنت بمدرسة فيردالا في مالطا  ولأن كوفلر كان حاملاً للجنسية النمساوية فقد تم القبض عليه وإيداعه المعسكر، وسجن مع كوفلر في المعتقل زملاء له في المهنة مثل كريستوف شولتز وارنست شولر بالإضافة إلى دانيال هيزنجر الذي اسندت إدارة المعسكر له ولكوفلر مهمة  التوثيق الفوتوغرافي للحياة داخل المعكسر والأنشطة المقامة فيه والثابت أن كوفلر قد أدار على هامش هذه المهمة عملاً تجارياً من بيع الصور للأسرى مما ساعده على تحمل تكاليف الإعاشة في نلك الظروف البائسة ، ومن أبرز أعمال كوفلر في تلك الفترة بورتريه شخصي رسمه لنفسه بألوان الجواش على ورق كهدية لسجانه الاسترالي "سالتر" عقب انتهاء فترة اعتقاله وقد لجأ كوفلر في رسمه للبورتريه الاسلوب الواقعي و الألوان القوية وإظهار ملامح وجهه القاطعة الحازمة الحادة .
 وأيضاَ كان المصور الألماني هاينز ليشتر الذي أصبح فيما بعد أحد مصوري خبيئة توت عنخ آمون1922م أحد زملاء كوفلر في معسكر الإعتقال وترجع أهمية هذه المعلومة في أنه على الأرجح أن ستوديو ليشتر بميدان الكرنك بالأقصر هو المكان الذي عثر فيه فاريللي على ألبوم كوفلر عندما استاجره  وما يؤكد هذه الفرضية العثور على ألواح عليها توقيع كوفلر في الاستوديو  الذي اكتشف مكانه مؤخراً ؛ وربما كانت الغيرة المهنية هي السبب الذي جعل ليشتر لا يأتي على ذكر كوفلر في مذكراته على الاطلاق ؛ وعقب إطلاق سراح كوفلر من معسكر الاعتقال في أبريل 1916م عاد إلى القاهرة ليمارس عمله في التصوير مرة أخرى  ويفتتح عدداً من الاستوديوهات آخرها ستوديو كوفلر 16شارع فؤاد "26يوليو حالياً" وقد ازدهرت مهنته في العشرينيات والثلاثينيات وأصبح أحد المصورين المشهورين لدى الطبقة العليا والحاكمة في مصر خاصة بالصور الملونة يدوياً ، كذلك كان مصوراً مفضلاً للصور التذكارية كحفلات التخرج والمناسبات العامة وأيضاً التقاط  صور الأبنية الرسمية والخاصة وظهرت صوره أحياناً على أغلفة المجلات والصحف مثل بورتريه شاه ايران الذي احتل غلاف مجلة اللطائف المصورة احتفالاً بزفافه على الأميرة فوزية فؤاد شقيقة الملك فاروق كما عمل أيضاً لدى العديد من المجلات الفرنسية ، وظل كوفلر يمارس التصوير حتى تقاعده عام 1950م  واستمر بعدها في إدارة الاستوديو الخاص به حتى تقاعده عام 1956م،  لكنه لم يغادر مصر إلا بعد العدوان الثلاثي 1956م  ليلحق بابنه الذي كان هو ايضاً وللمفارقة أسيراً لدى البريطانيين في الحرب العالمية الثانية واستقر بعد اطلاق سراحه في كينيا , وبعد ذلك وبالتحديد عام 1957م  لقي تيودور كوفلر مصرعه اثر سقوط الطائرة التي كانت تقله فوق بحيرة فيكتوريا في تنزانيا لتنتهي حياته الحافلة عند منابع النهر الذي صنع مجده وهو يوثق ضفافه ولتختم بهذا اسطورة تيودور كوفلر الرائد والسجين والمحترف الذي منح العالم بعدسته لمحة عن كيف كان شكل مصر وآثارها من السماء منذ أكثر من مئة عام .



























الهايبررياليزم ... الواقعية المفرطة بين الحقيقة والمصطنع مقال شذى يحي في مجلة المجلة عدد فبراير2015

شهدت المحافل و المعارض الفنية في العالم و خاصة في أوروبا ، احتفالات عديدة بمرور خمسين عاماً على واحدة من أكثر الحركات الفنية ثورية و تجدداً بعد البوب آرت ؛ وهي حركة الهايبر رياليزم Hyper realism  ، أو الواقعية المفرطة بدءاً من المعرض الذي أقيم على هامش بينالي فينيسيا الماضي تحت عنوان "الزمن-الفراغ-الوجود" Time-Space-Existence مروراً بمعرض متحف برمنجهام  ببريطانيا في الفترة من30نوفمبر2013م ،وحتى30مارس2014م، وانتهاء بالمعرض الذي أقامه متحف بيلباو للفنون والذي اختتم في التاسع عشر من يناير2015م ، وعرض فيه ثمانية و ستون عملاً لأربعة و ثلاثين فناناً يمثلون كافة أجيال فناني مدارس ومراحل الواقعية المفرطة منذ عام1967م و حتى عام2013م.
وقد كانت نشاة الهايبر رياليزم تحت مسمى "الفوتو رياليزم" الواقعية التصويرية في العام 1960م في الولايات المتحدة الأمريكية؛ باندماج مجموعة من الفنانين لرسم مشاهد وأدوات من الحياة اليومية بدرجة عالية من الواقعية،  بالاستعانة بالصور الفوتوغرافية كمصدر لاستلهام لوحاتهم ،ولأن الجيل الأول من فناني الواقعية التصويرية كان من أصول أمريكية؛ فقد غلب أسلوب الحياة الأمريكية و المناظر ذات الطابع الأمريكي على لوحات هذه المرحلة، فكانت لوحات الشاحنات والقطارات والدراجات والسيارات هي الأكثر شيوعاً، مثل: لوحات جون سولت   الذي كان ينتمي لعائلة من عمال مصانع السيارات في ديترويت و كذلك الرائد تشاك كلوز الذي تخصص في تصوير بورتريهات بأحجام عملاقة يعيد فيها بناء الوجه من مجموعة من الصور الفوتوغرافية ،وظل هذا التعبير اليومي الذي اعتبر مبدعوه انه - شكل من الأشكال- عودة للواقعية، ولكن بروح العصر ،وأسلوبه متمردين على لوحات الصالونات ،ومدارس الفن المعروفة في الأسلوب ، وفي الموضوع؛ حيث كانوا يجدون متعة في صدمة الأساتذة مما يفعلونه ومن استغرابهم له ؛فكان هذا هدفهم الأساسي كما يقول رالف جوينجز، الذي قال:"أصيب أساتذتي في الفنون بالدهشة مما كنت أفعله وعدم اتباعي للمدارس الفنية المعروضة وكنت أحس بهذا من اندهاشهم وصدمتهم" ، وظل كذلك حتى عام 1965م عندما نحت مالكولم مورلي مصطلح السوبر رياليزم أو ما فوق الواقعية، واصفاً به التطور الذي طرأ على شكل لوحات الواقعية التصويرية في الفترة من منتصف الستينات وحتى بداية السبعينات فالفنان مازال يستعمل الصورة الفوتوغرافية كمرجعية أساسية للوصول لدرجة قصوى من التعبير الواقعي ينتج عنه مظهر بارد وغير مشخصن لعناصر اللوحة كانعكاس للعالم الصناعي المادي حوله، فهو يسعى للحصول على مظهر واقعي ولكن غير حقيقي ،وكانت هذه هي بداية طرح فكرة الحقيقي والمصطنع في اللوحة و مدى واقعيتها؛ لأن موضوع اللوحة تعرض للنقل مرتين الأولى: من المنظر للصورة الفوتوغرافية، والثانية من الصورة الفوتوغرافية للوحة المرسومة، وقد ظلت هذه الجدليات وهذا الأسلوب حكراً على الولايات المتحدة الأمريكية، حتى عام1973م عندما عرض مجموعة من فنانيها أعمالهم في كاسل دكيومنتا في العام1972م ، ثم أقام تاجر الفن البلجيكي ليزي براشوت معرضاً في بروكسل لثلاثة من أهم فناني الواقعية التصويرية و هم رالف جوينز– وتشاك كلوز- ودون ايدي، واستعمل مصطلحHyper realisme  الفرنسي ذو المرادف الإنجليزي Hyper realism  كعنوان لكتالوج المعرض. وعرض في هذا لمعرض لوحات لأهم الفنانين الأوربيين المتأثرين بالاتجاه أمثال جنولي وجيرهارد ريشتر؛  ولكن  رغم أن مصطلح  الواقعية المفرطة طرح للمرة الأولى، استمر الوصف الأدق والأكثر شيوعاً هو "ما فوق الواقعية"، واستمر عمل فناني ما فوق الواقعية في فترة الثمانينات والتسعينات بنفس الطريقة؛ الاعتماد على النقل من الصورة الفوتوغرافية  كالسابق مع تغيريين مهمين أثرا على الأسلوب و تطوره
 الأول :أنهم كانوا تحت تركيز عالمي أكثر وأصبح لديهم منافسين أوروبيون يضاهونهم في المهارة وتنوع المشاهد .
الثاني: هو الدخول في عصر الصورة الرقمية فبدأ البعض في تصوير اللوحات بأسلوب المربعات الرقمية "البيكسل" وايضاً أسلوب التنقيط والاعتماد على الصور فائقة الجودة.
 وابرز من استخدم هذه الاساليب كان بيتر ماير الذي عمل في تصميم السيارات قبل الفن فرسم لوحاته باستخدام دهانات السيارات باستعمال تقنية الرش، ووصل في بعض الأحيان لاستخدام خمسة وعشرين طبقة من الدهان للوصول لإحساس جسم السيارة المصقول تماماً ، أما تشاك كلوز في لوحته المسماة "مارك" 1978-1979 ؛فقد حول اللوحة إلى مجموعة من المربعات على سطح الكانفاس وأعادة تلوينها مربع مربع بالإير برش مستخدماً الدهانات المعدنية متعمداً إظهار التفاصيل الدقيقة للشعر مع تغيير البؤرة البصرية للصورة الأصلية؛ بينما اختلف أسلوب ريتشارد ايستو لوحة "فندق هولندا" 1984م فكأغلب أعمال استيس لا يوجد عنصر بشري، واعتمد فيها رؤية أكثر من صورة فوتوغرافية لنفس المشهد مازجاً لعدة عناصر مختلفة لخلق صورة ذات بؤرة بصرية مركزة خالقاً إحساساً أكثر واقعية من الصورة الأصلية مع نوع من تأثيرات المرايا في انعكاسات الأشكال على الزجاج ليخلق نوع من الربكة لدى المتلقي فيما يختص بالفراغ.
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين وضع الفنان الأمريكي دينيس بيترسون القواعد الأساسية لمدرسة مبنية على أفكار فلسفية، واسس جمالية، ومبادئ مستمدة من الأفكار التي طورتها الواقعية التصويرية وانضم لهذه المدرسة فنانون من بلدان متعددة، وأسسوا اتجاهاً جديداً متطوراً عن الواقعية التصويرية وما فوق الواقعية هو الواقعية المفرطة "الهايبررياليزم" واستمروا في الارتكاز على الصور الفوتوغرافية كمرجع أساسي لاستلهام أعمالهم التي كانت أكثر تحديداً وتفصيلاً من الأعمال الواقعية التصويرية للتلخيص  والتجريد في بعض الأحيان، والحذف وتحييد المشاعر الانسانية و القضايا السياسية والعناصر الحكائية لأن الواقعية التصويرية انبثقت في الأساس من "البوب أرت " الفن الجماهيري؛ لذلك كانت محكمة ودقيقة وميكانيكية  في تعبيرها عن لحياة اليومية؛ فالواقعية المفرطة بالرغم من جوهرها التصويري أكثر نعومة وتعقيداً وعكساً لتغيرات الحياة والظروف، فهي تسعى لخلق واقع خيالي مصطنع  وليس لإظهار الصورة الأصلية، لدرجة أن البعض ذهب إلى أن الواقعية المفرطة هي سوريالية جديدة؛ فكلتاهما تسعى لخلق واقع افترضي مصطنع؛ ولذلك فإن الملامس والمؤثرات الضوئية والظلال عادة ماتكون أكثر حلمية ودرامية من الصور الفوتوغرافية المصدر، وحتى عن المصدر الطبيعي نفسه،ولقد اعتمدت الواقعية المفرطة في تنظيراتها على نظرية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه "المصطنع والاصطناع" والذي شرح فيه الحقيقة المفرطة  المصطنعة Hyper Reality  بقوله :
"لم يعد التجريد اليوم تجريد خريطة أو نسخة أو امرأة أو مفهوم، ولم يعد الإصطناع اصطناع إقليم أو كائن مرجعي؛ لقد أصبح التجريد توليد بالنماذج لواقع بلا أصل وبلا واقع، واقع فوق واقعي؛ فالإقليم لا يسبق الخريطة ولا يستمر بعدها اليوم ،مع الانتقال إلى الفضاء لم يعد مجاله مجال الواقع أو الحقيقة فلينفتح عصر الإصطناع على تصفية كل النظم المرجعية ،لقد غدا ما هو فوق واقعي بمنأى عن كل تمييز بين الواقعي و الخيالي، ولا يترك مجالاً لغير التكرار المداري للنماذج، ولغير التوليد المصطنع للفوارق؛ فبودريار يرى أن الانتقال من الرموز التي تحجب أمراً ما إلى الرموز التي تحجب عدم وجود اي شيء تشكل المنعطف الحاسم؛ فالرموز الأولى ترد إلى لاهوت الحقيقة و السر، وماتزال الإيد لوجيات تدخل في عدادها، أما الرموز الثانية فتفتح عصر المصطنع والإصطناع عصر ما فوق الواقعية ، وهو ما رصده أمبرتو ايكو في مقالته التي كتبها عقب زيارته للولايات المتحدة عام 1975م بعنوان "رحلة خلال الحقيقة المفرطة"، ووصف كيف تسعى الثقافة المعاصرة إلى إعادة خلق واقع مزيف ومصطنع؛ فيسعى المبدع لمحاولة خلق واقع فوق واقعي لايجاد حالة أفضل من الواقع، مدللا على ذلك بما يحدث في عالم ديزني قائلاً إن وراء هذه الأقنعة و الكائنات محاولة لتسويق شيء هو أفضل من الحقيقة المعاشة، واصفاً أمريكا في هذا المقال بأرض التزييف؛ حيث التاريخ المصطنع و الطبيعة المصطنعة و الثقافة المصطنعة و أن رحلته هي حج في دنيا الهيبورياليتي؛ حيث الواقعية المفرطة هي عالم من التزييف وحيث المحاكاة لا تهدف لإعادة إنتاج الواقع بل لإيجاد واقع محسن ؛ففن الهايبررياليزم يسعى لخلق وهم لحقيقة لا يمكن أن توجد في الصورة الفوتوغرافية ولا حتى في الشكل الأصلي بل هي حياة مفترضة في حد ذاتها مصطنعه بكل المشاعر والمذاهب والإعتقادات والعناصر الخاصة بها ففنان هذه المدرسة قد يضيف للصورة الفوتوغرافية  أشياء غير موجودة أو لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ويضيف المؤثرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يرغبها ولذلك تعد الواقعية المفرطة الواقعية التصويرية واقع افتراضي مصطنع.
وتتنوع مواضوعات فناني الواقعية المفرطة ما بين البورتريه، والتشخيص، ورسم المنظر الطبيعي ،ومناظر المدينه ،والمنظر الدرامي الحكائي مع الحفاظ على الصورة الفوتوغرافية كوسيط لمحاكاة الواقع، يتم من خلاله محاولة لخلق حقيقة متوهمة بصرياً ذات محتوى اجتماعي أو سياسي أو ثقافي؛ فبعض فناني المدرسة تناول  موضوعات مثل: فضح الأنظمة القمعية، أو التعرض لتراث عدم التسامح و الكراهية ،وتناولوا مآسي التطهير العرقي، ومشاكل اللاجئين مثل دينس بيترسون    وجوتفريد هيلينوين.
 ويعتمد فناني الهايبررياليزم بالدرجة الأولى على تأثيرات الظلال على الأشكال والمساحات والتكوينات؛ لخلق مظهر بصري يتعدى تسطيح الكانفاس ،وعادة ما تكون اللوحة أضعاف أو عشرين ضعف الصورة الفوتوغرافية المصدر أكثر نقاء في اللون ودقة في التفاصيل و الإير برش "مسدس اللون" هو الأداة الأكثر شيوعاً بين فنانيها باستعمال ألوان الأكريليك أو الألوان الزيتية وفي بعض الأحيان خليط من الاثنين ، وهناك أسلوب رقمي رائده الفنان بيرت مونروي تبدو فيه اللوحات كأنها مرسومة من الفوتوغرافية ولكنها مجهزة بالكامل على الكمبيوتر.
 والجدير بالذكر أن كثير من الفنانين الرواد في حركة الواقعية المفرطة مثل إيستس   وكلوز طوروا فكرهم وأساليبهم على مدى النصف قرن الذي هو عمر الحركة "فالواقعية المفرطة" هي حركة مفتوحة ومتطورة وليست مغلقة على نفسها ،ومازال أغلب روادها ينتجون ويواكبون تنوع المصادر وتقدم التكنولوجيا ،وظهور موتيفات ،وإندثار البعض الآخر في إطار إخلاصهم لمصدرهم الأساس الصورة  الفوتوغرافية؛ ليبهروا العالم برؤيتهم وإصرارهم وواقعهم البديل






"لوحات عفت حسني .. معزوفات كونية بموسيقى الألوان" مقال شذى يحي في مجلة الهلال عدد فبراير 2015


رحلة في عالمه المفعم بالأنغام هذا هو ما قدمه الفنان عفت حسني في معرضه عزف والذي أقيم في قاعة بيكاسو بالزمالك في الفترة من الثامن إلى الثامن والعشرين من ينايرعرض فيه مجموعه من أعماله الأخيرة عكست احتفالاً بالعناصر الكونية المتنوعة التي تشكل في إطار اللحن الوجودي الواحد نسج بصري متناغم تتنوع فيه إيقاعات وتونات ونغمات اللون والشكل .
لعفت حسني زمانه الخاص به ومكانه الذي يخلقه كما يراه على سطح لوحته ، مكان من عالم خاص به يمزج  فيه كل ما يحبه فلوحاته منسوجة من رؤاه الذاتية مستعيناً بمخيلة بصرية زاخرة بموروث ضخم من الموتيفات والقصص والحكايات الشعبية المطعمة  بثقافة بصرية سومرية – هندية – فارسية ثرية بخلفيات فرعونية وقبطية واسلامية فأعماله الفنية راسخة في جذورها التراثية العميقة ومشاربها وليست مجرد تجميعة من الموتيفات بل هي تعبير باللون والإحساس والرؤى لتمثل نسيج متكامل متنوع العناصر والمحتوى تعزف اللحن الفريد لحن العشق والحنين للمنشأ الواحد لنقطة الأصل في الوجود ، فلوحة عفت هي محاولة لإبراز العلاقات بين الأشياء والكتل والأجساد بتضادها وتجانسها - بصراعتها وتوافقاتها التي تشكل موسيقى الوجود في إطار واحد ، فهو يوظف كل أدواته من لون وخط وشكل وبناء لتحقيق هذه الحالة  بشكل حداثي مواكب لعصره والحداثة في مفهومه لا تعني الابتعاد عن تراثه وجذوره ومحليته بل الإغراق فيها وتطعيمها بمؤثرات أخرى وإيجاد حلول مبتكرة لأشكال وأساليب التراث لإثارة دهشة المتلقي وجذبه ليتفاعل معه فما يبحث عنه عفت في لوحاته هي تلك الروح التي تتولد  من خلال العلاقة بين الأشياء الرجل والمرأة والآلة ،العربة و الحصان، الديك والمآذن، الحمامة والأنثى .............وغيرها ، هذه العلاقات ذات الدلالات الجسدية والعقلانية والعاطفية الإنسانية هي انعكاس لروح الوجود كما يراه تظهرها تلك الحالة من العشق الموسيقي العميق الذي ينعكس في مساحات من الألوان الساحرة أحمر للشعر وعرف الديك ، أبيض للأجساد البضة ، أخضر للزخارف النباتية أطياف من ألوان قوس قزح تملأ اللوحة بالبهجة والحركة فمشهده اللوني يجتمع فيه صخب الألوان الشعبية مع ثراء الألوان التراثية المستمدة من المنمنمات ذات الطابع الروحاني ورصانة وقوة وتركيز ألوان الجداريات الفرعونية مع الأجواء اللونية لفناني العصر الحديث الأوروبيين ، ورغم هذا الثراء اللوني إلا أن الأبيض هو اللون البطل بلا منازع في أغلب اللوحات ، يستخدمه في بعض الأحيان ليحدد من هو العنصر الرئيس في نسيج العلاقات التي يرسمها وفي أحيان أخرى لإعطاء إحساس بطيران وذوبان العناصر ولإظهار اللمعة الكامنة في داخل الكائنات والأشكال .
أما خطوط عفت فتتنوع  مابين الخطوط اللينة التي يستعملها  لرسم الكتل الجسدية فتبدو بلا عظام وبلا أي إتكاءات داخلية ولا زوايا حادة بعيداً عن صلابة العظام والمفاصل لتعبر عن قوة الروح الكامنة داخل الجسد الطائر بلا حدود إلا ما يقرره الفنان ، وللجسد الانثوي خصوصيته في هذا العالم فهو يعبرعن تلك الأنثى القاهرة القوية الساخنة التي ملأت الحكايات والقصص الشعبية للإنسانية جمعاء وعفت حسني وفي للخط اللين لا يخرج عنه إلا في حالات نادرة جداً كلوحاته التي تعزف فيها امرأة على آلة موسيقية حيث يلجأ عفت إلى رسم اليد بخطوط حادة قاطعة بنسب تشريحية دقيقة على عكس بقية الجسد الذي يدخله عادة في ظلال لونية فبينما اليد البيضاء القوية الواضحة تعزف اللحن تتضاءل الرأس مختفية في الظلال الخلفيه لأن التعبير هنا ليس للعين ولا للفم بل لقدرة اليد على الفعل المادي ، نفس الخطوط اللينة يستعملها عفت لرسم العربات الحنطور والحيوانات والأدوات ليضفي عليها بعداً انسانياً حميماً  فهو يحدد أجسامه وعناصره اللينة المنصهرة بالقلم الأسود أو الرصاص أو الفرشاة لتحتوي أجساده مظهرة العلاقة بين أعضاء الجسد وأجزاءه وكم هو ممتلئ بالعاطفة والحرارة والمشاعر والعلاقة بينه وبين العناصر رغم الفوارق بينها فمشهد عفت مشهد مركب يعتمد على العلاقات المتضادة والمتوافقة بين الأشياء فالخطوط التي تشكل بطن الحصان على سبيل المثال في إحدى لوحاته هي نفسها تعريجات غطاء عربة الحنطور بينما نفس الحصان الملون بنغمية فوق الحنطور يعادله رأس حصان أبيض تحت قدمي الراكبة التي تكسو ساقيها ظلال الألوان ، وفي لوحة أخرى تجد السفيرة عزيزة تحل محل سنام الجمل ويعادل السكون في أعلى اللوحة حركة ديناميكية نشطة شبه طائرة في أرجل الجمل ، في لوحات أخرى تجد علاقة بين يد عازف خفي لا يظهر مع كمان تمسكه امرأة بضة بيدها وتعزف عليه باليد الأخرى في إشارة للعلاقة التي تعزفها امرأة مع رجل على آلة الكون مظهرة ديناميكية تمثل احدى العلامات المميزة لأعمال عفت حسني يحرص عليها ويبتكر لها الحلول التشكيلية بحركة العناصر والشخوص أحياناً وبالتناغم اللوني على سطح اللوحة في أحيان أخرى وبتلك الوحدات الزخرفية التي يزين بها الأجساد والأشكال لتتناقض في حركتها مع سكون الأجساد الجامدة مولدةً رتم حركي كالورود على عرف الديك أو سيقان وأفخاذ النساء والفروع النباتية و الهلال والنجوم وفي تحويل بعض الشخوص إلى حيوانات أو عناصر لخلق نوع من الغرابة البصرية كما ظهر بشكل جلي في إحدى لوحاته التي كان فيها العنصر الرئيسي الحصان وقد تداخل مع جسده عدد من الرؤوس البشرية في هجين لكتلتين وروحين في هذه اللوحة يتراجع الإنسان للعمق في إزاحة له عن مركزية مشهد الروح والوجود وذلك في إطار بحث الفنان عن مكونات أكثر قدرة على ادهاش متلقيه من خلال قدرته على تجميد اللحظة في مكان هو جسد هذا الكائن (الحصان) ولتعزيز هذه الديناميكية واظهارها كان لابد أن تحتوي أسطح لوحاته على بعض من القوة والصلابة لضمان ظهور حرية الحركة في الطيران وتعزيز الحركة البصرية  التي خلقتها الديناميكية وذلك بتحويل الرؤى البصرية لرؤى ملموسة من خلال تهشير سطح اللوحة في التحضير الأولي بشكل خفيف جداً واضفاء ملمس محبب بغرض تحقيق شكل من الصلابة محررا حركة العناصر من ذاتيتها و لإظهار الشفافية في بعض الأجزاء لتتوحد العناصر المتحركة مع النسيج العمل الكلي  فيشعر المشاهد أن اللوحة هي كل متشابك الخط واللون والمساحة والكتلة .
وتكتمل العلاقة الكونية عند عفت حسني بخلق جسر بين عالمه وبين المتلقي فتبدو تلك الأعين الخارجة من لوحاته كمرآة لما يدور في داخل العقل والجسد لمعتها تؤكد على أن العناصر الداخلة في نسيج اللوحة تسعى للتواصل مع المتلقي لتدخله في الحكاية الكونية وتستحث رغبته هو أيضاً في الحكي مستثيرة المتلقي ليضيف على الحكاية أو يسرد ما يعرفه عنها ، كذلك الطيور والحمامات التي تهمس في آذان النساء بحكايات الحنين للعودة والعشق الأول للأصل هي أيضاً تشجع المشاهد على أن يلعب دور الراوي  فتنشأ علاقة حميمة بينه وبين عالم الفنان على أنه ورغم اعتماد لوحات عفت على الحاسة الحكائية للمشاهد فإنها ليست بأي شكل محاولة لإنشاء ثقافة متأثرة بثقافة الفنان لديه فالحكاية خاصة براويها تختلف باختلاف خلفيته ومشاربه عفت فقط يسعى لربط الرائي بثقافته الشعبية أو ليوجد حكايته الخاصة ، وربما كان لخلفيه عفت في الرسم الصحفي ورسوم الأطفال دور في محاولته لبناء هذه العلاقة أو ربما يعود ذلك لجذور أبعد عندما كان طفلاً يشتري أمتار شرائط الأفلام التالفة من السينما ويعيد تلوينها وتكوين مشاهدها زفقاً لمخيلته هو ليكتب عليها إخراج عفت ، أو عندما كان يسمع حكايات ألف ليلة وليلة في المذياع ويتخيل نفسه محل بطل من الأبطال ويعيد بناء الحكاية كما يراها هو واضعاً اسس عالمه الخاص ، تلك هي حكايات عفت حسني الكونية التي يعزفها بموسيقى اللون والشكل والحركة فقط لتطرب متلقيه وتستحثه ليروي معه الحكاية الأزلية .


 







منحوتات الإنديك .... والممالك الهندية في جنوب شرق آسيا - مقال شذى يحي - بمجلة المجلة عدد أغسطس2014

أقام متحف الميتروبوليتان "نيويورك" مؤخراً معرضاَ ، بعنوان ممالك منسية "المنحوتات الهندوسية و البوذية لممالك جنوب شرق آسيا القديمة في الفترة من القرن الخامس إلى الثامن الميلادي" بهدف كشف و إبراز الأثر الهندي على النحت في مناطق مختلفة من جنوب شرق آسيا ، و متحف المتروبوليتان ، ليس المتحف الوحيد الذي اهتم بجنوب شرق آسيا ، فلقد سبق أن أقيمت معارض عديدة لمقتنيات  هذا النحت المميز في العواصم الأوروبية المختلفة ، ورغم أننا الأقرب إلى حضارات آسيا ، فإننا مازلنا لا نعرف الكثير عن فنون الشعوب الأسيوية التي تربطنا بها أواصر حضارية عديدة تستوجب إلقاء الضوء على منجزها الحضاري ، من أجل التعريف بحضارة و فنون الشعوب العريقة التي تشابهت نشأتها المدنية مع نشأة مجتمعاتنا و حضاراتنا ، بل تفاعلت معنا و تفاعلنا معها عبر محطات حضارية مختلفة منذ العصور القديمة و حتى العصر الحديث .
 فقد كان شمال الهند النقطة المركزية لنشأة ما يعرف بحضارة الأنديك "حضارة الشعوب المتكلمة بلغات ذات جذور هندوأوروبية او شهد أول تجمع حضري ظهر في المنطقة ففي فترة مقاربة لنشأة الحضارات الإنسانية الكبرى على ضفاف النيل و الرافدين ظهرت حضارة أخرى عريقة على ضفاف نهر الهندوس و كمثيلانها على مر التاريخ انتجت هذه الحضارة فنونا عبرت عن مراحل تطورها و اضمحلالها و بيئتها و أفكار و ظروف من أبدعوها  و تذوقوها و اقتنوها ، و عن رؤيتهم و توافقهم و تكيفهم مع ما حولهم وانتقلت هذه الأعمال الابداعية وتقنيات ابداعها و الأفكار و الرؤى التي كانت وراء إبداعها لمنطقة واسعة من جنوب آسيا و على مراحل زمنية و فترات طويلة لعدة أسباب كان أهمها العلاقات التجارية المتبادلة على نطاق واسع بين الهند و الممالك و القبائل المجاورة لها في جنوب آسيا عبر الطرق البرية و البحرية و المستعمرات و الممالك التي أنشأها الهنود في تلك المناطق ، و المناطق التي احتلوها و نشروا فيها ديانتهم الهندوسية على مذهب الشافيزم "عبادة الإله شيفا" و تلتها البوذية بعد ذلك مما تطلب إقامة التماثيل و المعابد و نشرالقصص و الروايات التي تحكي عن إله و تمجده ، ثم تأليف فياس و فالميكي للملحمتين الشهيرتين الرامايانا و المهابهارتا  اللتان أشعلتا المخيلة الابداعية للفنانين الجنوب آسيويين حتى يومنا هذا و ساهمت بقوة في الربط الثقافي بين الهند و أنحاء جنوب آسيا فالأولى مكرسة لقصة الإله راما الهندوسي و الثانية في تاريخ نشأة الهند و ملوكها و قد تم تأليفهما في نهاية عصر حضارة الهندوس و اتخذتا شكليهما النهائي في القرن الرابع الميلادي في حقبة أسرة الجوبتا . 
و لهذه الأسباب الثلاثة أصبحت الفنون و الثقافة و الإتجاهات الفكرية السائدة في الهند على مر الحقب مكون رئيسي و محوري في ثقافة جنوب آسيا بصفة خاصة في الفنون و إن كان أعيد تحويرها  و تطويرها لتتفاعل و تتكيف مع الإختلافات في الظروف و البيئات و الأذواق و الطابع الخاص لكل منطقة حلت فيها متأثرة أيضاً بالمؤثرات و الثقافات المحلية للمجتمعات التي وفدت عليها ، و قد كان لفن النحت و ما زال أهمية خاصة جداً بين الفنون الأسيوية المتأثرة بالحضارات الهندية فهو فن تمثيل الإلهة و الملوك و القديسين في التمثال يختزن جزئ من الروح ليتصل بها المشاهد و يتواصل معها و تتبدى تلك الأهمية منذ النشأة الأولى في النماذج النحتية المتبقية من حضارة وادي الهندوس "الهاربا" في موهانجادارو و التي كانت و بلا جدال أهم الإنجازات الفنية لشعب الهاربا لأنها حملت مستوى تعبيري رفيع بالإضافة إلى دقة الصنعة خاصة في صب البرونز و تمثال فتاة موهانجادارو الراقصة "2500ق.م" واحد من أكمل التماثيل و أدلها على القواعد الجمالية للنحت في هذا العصر ، على أن الهنود عرفوا خلط السبائك البرونزية في وقت مبكر جداً و برعوا في صبها و تشكيل أعمال فنية منها .
و بدأ الإحتكاك الهندي بجنوب آسيا في بدايات الألف الأولى قبل الميلاد عندما أنشأ التجار الهنود ممراً تجارياً لإيصال السلع الفاخرة من جنوب الصين و أطرافها إلى الإمبراطورية الرومانية و كان لابد أن يمر هذا الطريق براً و بحراً بما يعرف اليوم بدول تايلاند و فيتنام و كمبوديا و بعض جزر أندونيسيا و أن ينشئوا محطات تجارية في هذه المناطق و نتيجة لهذا ازدهرت الفنون في حضارات المنطقه مثل حضارة الدونج سون "500ق.م – 30م" في فيتنام فقد عرف شعب الدونج سون  بالمهارة في صب و تشكيل  البرونز و صناعة التماثيل و لعل التماثيل التي تعود إلى تلك الفترة أكبر دليل على ذلك و كذلك تمثال الحجر الرملي الذي يمثل  حيوان بأربعة أرجل و رأس طويل الذي وجد في منطقة دوك شوا في فيتنام و يعود تاريخه للألف الأولى قبل الميلاد يؤكد أن نحت الحجر الرملي كان معروفاً و متقدماً في تلك المنطقة .
 و وضعت مدارس النحت الآسيوية  قواعدها الأساسية مستمدة إياها من أربعة مدارس نحتية أرست قواعدها ثلاثة إمبراطوريات "الجوبتا – الشاولا – البالا - الآمارافاتي" أقدمها مدرسة الجوبتا التي بدأت مع بداية الإمبراطورية في القرن الرابع الميلادي و لم تنتهي بإنتهاءها في القرن السادس بل استمرت و تطورت أكثر لتضع الأسس التي قام عليها الفن الهندي الكلاسيكي وذلك لأن قواعدها احتوت على الكثير من القواعد و الاسس الرياضية و التقنية و أهم ما ميزها في النحت أنها نقلت التمثال من مرحلة التعبير عن الطبيعة في أجزائه إلى مرحلة تمثيل هذه الطبيعة فأصبح الجسد الإنساني المنحوت معبراً عن عظمة و قوة الطبيعة المتمثلة في الجسد الإنساني فقد استخدم نحات الجوبتا الجسد الإنساني للتعبير عن تحولات الطبيعة لفن ، فالتفنن في إظهار كل أشكال الظواهر الطبيعية  شكل في الجسد الانساني كان الهدف الاساسي في نحت الجوبتا .
والانسيابية الإيقاعية للجسد كانت تعبير عن تناغم الطبيعة فالأعين المرتخية في الوجه ذي الملامح الرقيقة الرهيفة دال على الإنسجام و التوحد الكوني و هما مشتقان من التناغم الزهري للوتس الرقبة مرتبطة بصدفة شيفا التي بدأت بصوتها الحياة و استدارة الأعضاء مستلهمة من استدارتها و التفافها حول بعضها فنحت الجوبتا كان صيغة أيقونية للتوافق بين التعبير الروحي الداخلي و الجسدي ليجمع بين العالمين السماوي و الأرضي على نفس المبادئ التي قامت عليها تمارين اليوجا و لهذا تميز نحت الجوبتا تقنياً بالاستدارة في الكتل و الرهافة و الرقة في التشكيل و الدقة الهندسية و مراعاة النسب الرياضية في الخطوط المحددة للشكل و التناغم الايقاعي كذلك باحترام طبيعة الخامة و طبيعة المكان الذي سيوضع فيه التمثال و الغرض من صنعه و كان أهم ما يميزه التحديد القوي لخط و شكل و تكوين الشخصية المراد تمثيلها و أيضاً لدرجة لون التمثال .
 أما امبراطورية الشاولا فعلى يدها تطورت تلك الفنون كافة تطوراً غير مسبوق خاصة في التقنيات النحتية سواء نحت البرونز أو الحجر الذي وصل لأوج تقدمه بفضل الرعاية و العناية التي أولاها حكم الشاولا لبناء المعابد و إقامة التماثيل و نشر ثقافتهم في أنحاء جنوب شرق آسيا .
كذلك مدرسة أخرى أثرت في النحت في الهند الصينية هي مدرسة البالا تلك الامبراطورية التي ازدهرت في منطقة البنغال في القرن الثامن و بلغت ذروة تطورها الأسلوبي في القرن الحادي عشر و عكس أسلوبها التعبير الصادق و الخالص  عن التجربة الدينية سواء هندوسية أو بوذية و منها استقت المدارس الآسيوية الإفراط في تزيين التماثيل بالحلي و الإكثار من الزخارف النباتية مع إضفاء بعض التعبير على الوجه خاصة  في التماثيل التي تمثل حالة التأمل و التمثيل اللحظي للحالة متمثلاً في التعبير الحركي القوي و حالة البهجة .
 أيضاً الآمارفاتي و هي سلالة ملكية ازدهرت في جنوب شرق الهند تميزت منحوتات الآمارفاتي بالحسية و الديناميكية و الدراماتيكية و التشكيلات ذات الانحناءات القوية و الخطوط التي توحي بالعمق.
 و انتقل أثر هذه المدارس مع تكوين أول مملكة هندوسية على طريق التجارة و هي مملكة الفونان التي امتد نفوذها من كمبوديا إلى بورما و ماليزيا في الفترة من القرن الثالث إلى السادس الميلادي و انشات بعد سلسلة من المصاهرات مع النبلاء المحليين و قد حرص منشئيها على ان توضع قواعد دولتهم الجديدة على نفس منهج و اسلوب امبراطورية الجوبتا المزدهرة في تلك الفترة و يتبدى ذلك في منحوتات "فنوم-دا" التي تعود للقرن السادس و السابع الميلادي مثل تمثال لاكشمي و تمثال فيشنو ( شكل – 4 ) (شكل-5) ، فقد عكست هذه التماثيل أسلوباً خاصاً في امتلاء الجسد و إن كانت قد حاكت الجوبتا في شكل الحواجب المقوسة و الشفاه المنتفخة و تركيبة الوجه كما واكب صعود الفونان صعود مماثل لمملكة "زينهلا" في جاوة التي تأثرت بأساليب النحت المتقدمة في عصر الجوبتا ايضاً  ، ثم انهارت الامبراطوريتان على يد أساطيل مملكة "شري فيجايا" القوية التي أسست في سومطرة مملكة بوذية من القرن السابع حتى القرن الثاني عشر الميلادي ، و قد ارتبطت هذه الامبراطورية ثقافياً بإمبراطورية " البالا"، و في عهد الشري فيجايا أرسلت بعثات ثقافية لدراسة الفنون في عاصمة امبراطورية الشاولا  و عادت حاملة معها أسلوب الشاولا البرونزي و الحجري المميز و لعل ذلك يتبدى واضحاً في تماثيل المعابد في وسط سومطرة كتمثال حارس المعبد دفارابالاDavarPala        و تمثال الملك آديتيا المحاربAdtya warman      ملك الأرض الذهبية  ، و تمثال براجنا باراميتا من شرق جاوة ، فجمعت منحوتات  الشري فيجايا جمعت ما بين الأسلوبين فيما يعرف بأسلوب السيلندرا Sailendra Art     و بدأ ظهوره في القرن التاسع الميلادي و يظهر هذا واضحاً في التمثال البرونزي لمايتريا وسط سومطرة و يظهر فيه بدايات الأسلوب الأسيوي الذي تميز بالرقة و دقة الملامح و النعومة والصفاء الروحي النقي جداً في الوجه و مازالت قواعد هذا الأسلوب الفني  و مميزة للنحت الهندوسي  و البوذي في جزيرتي جاوة و بالي الإندونيسيتين .
في نفس التوقيت تقريباً نشأت في  بورما مملكة دانت ببوذية الثريفادا و خضعت سياسياً للشري فيجايا و بالتالي للتأثير الثقافي و الفكري الهندي ككل ممالك المنطقة  و لكن النحت البورمي رغم احتفاظه بالأيقونية لكنه انتج تماثيلاً أكثر رهافة و عذوبة و ديناميكية من تماثيل البالا الجامدة و خصوصاً في الحدود الخارجية للتماثيل التي أصبحت أكثر ليونة و أناقة و تمثيلاً للطبيعة كذلك أصبح التزيين سواء في تماثيل الشري فيجايا أو البورمي أكثر نعومة أناقة و فخامة و تناغماً مع شكل التمثال  كما دخل على هذا أيضاً القليل م الأثر الصيني بحكم الموقع الجغرافي و كذلك الأثر القوي جداً للأسلوب الفني للشري فيجايا و تطورت هذه الأساليب مع اندماجها مع الأساليب المحلية بحلول القرن الثاني عشر الميلادي لتنتج أسلوباً نحتياً مميزاً مستوحى غالباً من بناء زهرة اللوتس فالتمثال مقدمة  جبهته دائماً عريضة و الذقن صغيرة إضافة إلى الحواجب المقوسة التي تميزت بها كل المنحوتات الآسيوية بابتسامة رقيقة خفيفة و الشفة العليا فقط هي التي تتميز بالغلظة و دائماً هناك عصابة حول الرأس و مبالغة في حجم الأيدي و الأقدام و العباءة تغطي الكتف الأيسر فقط ،أما إمبراطورية الشامبا في شمال فيتنام كانت هي الأطول عمراًبين إمبراطوريات المنطقة فقد بدأت نشأتها في نهاية القرن الأول الميلادي و استمرت أكثر من ثمانية قرون و استمرت مدارسها الفنية حية حتى الآن و تأثرت هذه المدارس في مراحلها بالتطورات و التغيرات التي طرأت على المدارس و الأساليب المختلفة سواء في منطقة الهند الصينية في الهند و حافظت كباقي المدارس النحتية على الشكل الأيقوني العام و ظلت ديانة الشامبا حتى القرنين التاسع و العاشر الميلادي هندوسية حتى بدأ عدد الذين يدينون بالمذهب البوذي المهايانا يزداد فدخلت الأيقونية البوذية على الشكل العام للتمثال الهندوسي و إن كان الأثر الهندوسي احتفظ بقوته على الفن و تميزت التماثيل التي كان أغلبها من القرميد و الحجر الرملي و القليل جداً منها برونزي بالمبالغة و الوجوه التي لا تبتسم أو تعكس ابتسامة خفيفة بشفاه و أنوف غليظة و هي في أغلبها تماثيل للالهين شيفا و بوذا و حراس القانون و القديس البوذي أفلوكاتسافارا و الإلهة الأنثى المفضلة في عموم المنطقة تارا و يوجد تمثال للإلهة الأنثى تارا يعرف بديفيDevi Goddess  بطول 129,3سم يعود تاريخه للقرن العاشر الميلادي و يسميه الغربيين فينوس الشرق يعكس كل ملامح نحت الشامبا و التأثير الهندي عليه و آخر للقديس افلوكاتسافارا من القرن العاشر يزن35كجم من أهم النماذج الممثلة لنحت شامبا .
و في الفترة نفسها أيضاً نشأت امبراطورية الخمير و التي تأسست في الجزء الجنوبي فيما يعرف الآن باسم فيتنام فقد أسسها نبلاء الزينهلا الذين أقاموا امبراطوريتهم لقرون قبلها في وسط جاوة و ذلك في بدايات القرن التاسع الميلادي و حملوا معهم للبر الرئيسي التقاليد الفنية و الثقافية التي أرسوها و طوروها في جاوة و أعادوا اعتناق الهندوسية و غزوا أجزاء من بورما و تايلاند و أقاموا علاقات مع الشامبا في شمالي فيتنام و هذا أتاح لهم اتصالاً ثقافياً هائلاً بكل المناطق التي أقاموا علاقات معها .
 و قد عكس نحت الخمير في بداياته التأثير الهندي الواضح و لكنه كان أقل دراماتيكية و تعقيداً كما انه تأثر بالممالك المجاورة فحمل نفس الرقة و العنايه بالتفاصيل مع ليونة الأعضاء و لكنه حافظ على المفهوم الهندي في احترام قواعد التشريح و قيمة الفخامة فلم يظهر ميلاً للتكوين الدائري و النباتي و البحث عن النعومة و الرهافة إلا بعد انتقال عاصمة الخمير إلى أنجكور في بداية القرن الثامن الميلادي فبدى تأثير الفن ذو الأصول الجاوية لأسلوب شامبا المجاورة و ظهرت الأجسام المستديرة و الدقيقة و الشفاه المميزة .
 و قد بلغ نحت الخمير أوج ازدهاره و تفرده و تألقه في مرحلة بناء معابد أنجكور و التي تعد أكبر مجمع ديني في العالم تم بناءه في الأصل لتمجيد الإله فيشنو رغم أن الخمير كانوا يقدسون الاله شيفا في الأساس و قد بني ليكون تجسيداً لمسكن الآلهه الهندوس في جبل "ميرو" وعند تحول الخمير إلى البوذية بني معبد بايون لتمجيد بوذا و تقديسة و عند عودة الخمير لاعتناق الهندوسية عادت تماثيل الآلهة الهندوس و التقاليد الهندوسية في النحت للظهور مرة أخرى ، كما طوروا و جودوا أساليب جديدة بلغت أوج ازدهارها في القرن العاشر و كانت أميل لتمثيل ما وراء الطبيعة من التوحد مع الطبيعة فظهرت تشكيلات لا علاقة لها بالفن الهندي مثل فيشنو و جارودا ممثلين بشخصين فوق بعضهما و الآلهة ذات الثمان وجوه فوق بعضها و على الجوانب و الأبراج الموجودة في معبد بايون على شكل رأس بوذا و جداريات الأسبارا أو الحوريات الحاميات من إناث الثعابين و تغير الشكل الأيقوني فأصبح أكثر ميلاً للتجسيد الجمالي للجسد الإنساني الطبيعي بطريقة مبتكرة لأن الخمير اعتنقوا مذهباً لم يكن موجوداً في الهند هو الديفا-راجا Deva-Raja  أي الملك الإله و الذي يعني ان الملك ينحدر من سلالة الآلهة لذلك فقد كان الهدف من هذه التماثيل هو تمجيد الأرستقراطيين الخمير و ليس مجرد العبادة أو التوحد مع الطبيعة فاحتوت تماثيل الاناث على اغراء حسي و مثلت تماثيل الرجال هيبة و عظمة و إفراط في التزيين و استعمال الحلي و الاهتمام بالمظهر الجمالي و ابراز المقاييس الجمالية المفضلة لتلك الفترة مثل الحواجب المقوسة الملتصقة و الجبهة الملساء و الأنف المتناسق المتناغم معهما تحته الشفاه الممتلئة و الذقن المزدوجة المقوسة و التي تتناسق مع الثديين المقوسين و تتناسب معهما كذلك تظهر نفس الأقواس المتناسبة حسابياً في الوسط و استدارة الكعبين و الردفين لكن على ذلك احتفظ النحت الأنجكوري بسمات هندية مثل نعومة التكوين و التشكيل الأمامي و ملامح الوجه الدالة على صفاء الروح .
و قد بلغ اتساع المد الهندي ثقافياً مداه ليصل إلى تايلاند فظهر الأثر الهندي في النحت مع بداية القرن الأول قبل الميلاد عندما أسس الامبراطور أشوكا أول مستعمرة بوذية و توالت موجات الهجرات و بلغ التأثر أوجه في القرن التاسع عصر دافارافاتي  و النحت التايلاندي نحت ديني بكل المقاييس و لذلك يطلق عليه النحت البوذي و هو مازال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية و من أهم العناصر الثقافية و للمدارس الهندية نصيب الأسد في تقاليد ما يعرف بالنحت البوذي السيامي "الاسم القديم لتايلاند" فهذا الأسلوب اعتمد في أساسه على الطرق و القواعد الكلاسيكية التي أسسها الجوبتا و الآمارافاتي و أيضاً تقاليد الشاولا في الجنوب و البالا في البنغال و إن كان أيضاً مؤسسي مدرسة الدافارافاتي اعتمدوا على بعض الأسس و التكوينات التي احتوت عليها المنحوتات البدائية الشعبية و لكن يبقى الأثر الأقوى هندياً مباشراً من الجوبتا و البالا و غير مباشر مستقى من منحوتات "شري فيجايا" المجاورة و تلاه تأثير غير مباشر أيضاً مستمد من تقاليد الخمير النحتية و يتميز النحت التايلاندي بالحفاظ على النسب التشريحية و بالتكوين القوي و المحكم مع الحفاظ على النعومة و تدعيمها باستعمال الباتينا الملونة و الشكل المكعب للرأس مع التأكيد على تربيعة الوجه و قوة ملامحه و دقتها مع أنف مستقيم و شفاه رفيعه افقيه مع الأنف و أذني بوذا المميزتين الطويلتين نتيجة للبس الأقراط الثقيلة عندما كان أميراً و يظل القاسم المشترك في النحت البوذي السيامي مع بقية النحت في المنطقة هو ملامح الوجه التي تسعى لإظهار الصفاء و النقاء و انسجام الروح من الداخل مع الجسد مع ما يحيطهما من ظواهر طبيعية و الحفاظ على الأيقونية في الشكل و حركات الأيدي و الأقدام و طرق الوقوف و الجلوس و لعل أهم ما ميز المدرسة التايلاندية و كل مدارس النحت الأسيوي بلا استثناء أنها برغم تعرضها لموجات متتابعة من التأثير الهندي  تميزها بقدرتها على تعديل و تطوير التأثير و إعادة إنتاجه و قدرتها على الاستفادة من التطوير  الذي أجراه الفنانين في المناطق المجاورة و إعادة تطويره و تطويعه هو أيضاً لخلق شكل مميز لمنحوتاتها ،و على ذلك تبقى  المعالجات المفاهيمية و الأسلوبية الهندية للعمل النحتي هي حجر الأساس الذي قامت عليه كل مدارس النحت في جنوب شرق آسيا. .




"البرونز الهندي" سبك الأزل - مقال شذى يحي - بمجلة المجلة -عدد مايو 2014

منذ عشرات القرون كانت التماثيل البرونزية الأكثرتفضيلا في الفنون الآسيوية و في الهند خاصة كأسلوب لتمثيل الآلهة و القديسين وللتعبير عن تراثهم الثقافي و الحضاري لسهولة تحريكها في الالحتفالات من جانب ولكونها ال تبلى و لا تكسر بسهولة من جانب آخر و هو ما انعكس على حرفة صب البرونز ومدى التطور الذي بلغته عبر الحقب و العصور و الإتقان و المهارة و الحرفية العاليةالتي وصل إليها الفنانين في هذا المجال و الروحانية و الجمالية التي عكستهاتماثيلهم ، و هو ما جعل لهذا الفن مكانة مميز في التراث الفني الانساني و مكنته منأن يستمر و يبقى بنفس أساليبه و تقنياته حتى وقتنا الحاضر فقد صنعت هذه التماثيللتبقى خالدة عبر الأزمنة .
و قد عرفت منطقة نهر الهندوس صب المعادنلصناعة تماثيل الآلهة منذ حوالي الخمسة آلاف عام بالتقريب عندما استعملت لأول مرةتقنية الشمع المفقود و التي تعتمد ببساطة على صناعة التمثال من شمع العسل سواء حولقالب من الطين أو مصمطاً تماماً ثم دفنه في قالب من الطين أو الرمال و ترك قناةلصب المعدن  ليتشكل التمثال البرونزي  و هو ما يعتبره الهنود إحدى الاشارات على دائربةالزمن و إعادة الخلق و بعد أن يبرد البرونز يكسر القالب و ينظف التمثال و تزالالزوائد لتوضع عليه اللمسات النهائية ثم يلمع و يصقل لتصبح هذه النسخة الوحيدة منهو لا يمكن تقليده مرة أخرى و لا مثيل لها على مر الزمن ،  و قد بلغت هذه التقنية أقصى درجات تطورهاالتقني و الأيقونوجرافي في عصر أسرة شولاChola  في الفترة من(860-1279م) فلم يعد المعرفة بتقنيات الصب و إمكانيات الخامة هي معيار المهارة فقطبل أصبح لابد أيضاً أن يكون الفنان عارفاً بدلالات الحركات و الزي و الحلي و الأدوات التي يحملها التمثال و أن يعكسالتمثال بدقة كل القيم الروحية و الجمالية و الإنسانية التي يمثلها صاحبه ، و منأوضح المثلة على التقدم الفني و الفكري للنحت البروزي عهد الشاولا تمثال فيشنو ذو الأذرع الأربعه الذي صنع في حدود العام1100م و فيشنو هو الإله الحافظ في الثالوث الهندوسي المقدس " براهما- فيشنو –شيفا " و هو الإله الموسيقي عازف الناي و الأكثر تمثيلاً في الدب و الشعر والفنون عامة و إن كان هذا من التماثيل النادرة التي صنعت له في عصر الشاولالتقديسهم  للاله شيفا ، و يظهر فيشنو فيهذا التمثال على قاعدة مربعة تميزت بها تماثيل حقية شاولا لسهولة حمله فيالمهرجانات فوقها تستقر قاعدة زهرة اللوتس التي هي رمز الكمال و الامتياز و إحدىعلامات الاكتمال الروحي ينتصب فوقها التمثال الذي أظهره الفنان بشكل يعكس الجرأة والقوة و التوازن مع ما يحيطه في يده اليسرى العلوية يحمل الصدفة المخروطية التيعندما نفخ فيها بدأت قصة الوجود و هو يحمي بصوتها الكون و في يده اليمنى العلويةيحمل عجلة العدالة لحماية الحقوق و كلا الرمزبن مزين بألسنة من اللهب الذي يرمزللإشعاع الصادر من طاقة الإله ، اليد اليسرى السفلية تشير بإشارة لتخفيف آلام ومعاناة المعذبين و المتألمين و اليمن السفلية تجاوبها بإشارة الاطمئنان و السلامللبشرية و قد زين التمثال بالأساور و العقود لإضفاء الفخامة عليه و كذلك على رأسهيوجد تاج العالم لإضفاء المزيد من الهيبة و الجلال و السطوة و يتدلى على كتفهالخيط المقدس الرامز لارتباط الإنسان بالكون و الوجود و تظهر جودة و تقدم الصناعةفي الرداء الذي يرتديه التمثال بطياته و حوافه و تنياته و كذلك في تلوين بعذأجزاءه باللون الأحمر و كذلك تعبيرات الوجه التي نحتت بدقة و عناية لتعطي الإيحاءبالملجأ و الملاذ و الأمان و الحفظ فهذا التمثال إنعكاس لأحد أهم جوانب ثقافتهالتي تؤمن يالانسجام مع الوجود و التوحد معه ففيشنو بأذرعه الأربعة هو تعبير عنإيقاع الحياة و وحدة الوجود و إشارات يديه هي تعبير عن الكارما فهي ملجأ الضعفاء ودمار الأشرار و كذلك هي انعكاس المحبة القلبية و الطاقة الروحية .
إن تاريخ تشكيل المعادن و صب التماثيل فيجنوب الهند تاريخ عظيم مازال مستمر حتى يومنا هذا بفضل الفنانين و الصناع الذينمازالوا يحيون التراث القديم المكتوب و المسموع و الحفاظ حتى على الشكلالأيقونجرافي  الذي يؤمنون بأنه بالحفاظعليه و على الطرق و الساليب القديمة في الصناعة فانهم يوجدون جزأ من حضور الإله فيالتمثال ليستمع لعبادة المؤمنين به .