السبت، 30 مايو 2015

"لوحات عفت حسني .. معزوفات كونية بموسيقى الألوان" مقال شذى يحي في مجلة الهلال عدد فبراير 2015


رحلة في عالمه المفعم بالأنغام هذا هو ما قدمه الفنان عفت حسني في معرضه عزف والذي أقيم في قاعة بيكاسو بالزمالك في الفترة من الثامن إلى الثامن والعشرين من ينايرعرض فيه مجموعه من أعماله الأخيرة عكست احتفالاً بالعناصر الكونية المتنوعة التي تشكل في إطار اللحن الوجودي الواحد نسج بصري متناغم تتنوع فيه إيقاعات وتونات ونغمات اللون والشكل .
لعفت حسني زمانه الخاص به ومكانه الذي يخلقه كما يراه على سطح لوحته ، مكان من عالم خاص به يمزج  فيه كل ما يحبه فلوحاته منسوجة من رؤاه الذاتية مستعيناً بمخيلة بصرية زاخرة بموروث ضخم من الموتيفات والقصص والحكايات الشعبية المطعمة  بثقافة بصرية سومرية – هندية – فارسية ثرية بخلفيات فرعونية وقبطية واسلامية فأعماله الفنية راسخة في جذورها التراثية العميقة ومشاربها وليست مجرد تجميعة من الموتيفات بل هي تعبير باللون والإحساس والرؤى لتمثل نسيج متكامل متنوع العناصر والمحتوى تعزف اللحن الفريد لحن العشق والحنين للمنشأ الواحد لنقطة الأصل في الوجود ، فلوحة عفت هي محاولة لإبراز العلاقات بين الأشياء والكتل والأجساد بتضادها وتجانسها - بصراعتها وتوافقاتها التي تشكل موسيقى الوجود في إطار واحد ، فهو يوظف كل أدواته من لون وخط وشكل وبناء لتحقيق هذه الحالة  بشكل حداثي مواكب لعصره والحداثة في مفهومه لا تعني الابتعاد عن تراثه وجذوره ومحليته بل الإغراق فيها وتطعيمها بمؤثرات أخرى وإيجاد حلول مبتكرة لأشكال وأساليب التراث لإثارة دهشة المتلقي وجذبه ليتفاعل معه فما يبحث عنه عفت في لوحاته هي تلك الروح التي تتولد  من خلال العلاقة بين الأشياء الرجل والمرأة والآلة ،العربة و الحصان، الديك والمآذن، الحمامة والأنثى .............وغيرها ، هذه العلاقات ذات الدلالات الجسدية والعقلانية والعاطفية الإنسانية هي انعكاس لروح الوجود كما يراه تظهرها تلك الحالة من العشق الموسيقي العميق الذي ينعكس في مساحات من الألوان الساحرة أحمر للشعر وعرف الديك ، أبيض للأجساد البضة ، أخضر للزخارف النباتية أطياف من ألوان قوس قزح تملأ اللوحة بالبهجة والحركة فمشهده اللوني يجتمع فيه صخب الألوان الشعبية مع ثراء الألوان التراثية المستمدة من المنمنمات ذات الطابع الروحاني ورصانة وقوة وتركيز ألوان الجداريات الفرعونية مع الأجواء اللونية لفناني العصر الحديث الأوروبيين ، ورغم هذا الثراء اللوني إلا أن الأبيض هو اللون البطل بلا منازع في أغلب اللوحات ، يستخدمه في بعض الأحيان ليحدد من هو العنصر الرئيس في نسيج العلاقات التي يرسمها وفي أحيان أخرى لإعطاء إحساس بطيران وذوبان العناصر ولإظهار اللمعة الكامنة في داخل الكائنات والأشكال .
أما خطوط عفت فتتنوع  مابين الخطوط اللينة التي يستعملها  لرسم الكتل الجسدية فتبدو بلا عظام وبلا أي إتكاءات داخلية ولا زوايا حادة بعيداً عن صلابة العظام والمفاصل لتعبر عن قوة الروح الكامنة داخل الجسد الطائر بلا حدود إلا ما يقرره الفنان ، وللجسد الانثوي خصوصيته في هذا العالم فهو يعبرعن تلك الأنثى القاهرة القوية الساخنة التي ملأت الحكايات والقصص الشعبية للإنسانية جمعاء وعفت حسني وفي للخط اللين لا يخرج عنه إلا في حالات نادرة جداً كلوحاته التي تعزف فيها امرأة على آلة موسيقية حيث يلجأ عفت إلى رسم اليد بخطوط حادة قاطعة بنسب تشريحية دقيقة على عكس بقية الجسد الذي يدخله عادة في ظلال لونية فبينما اليد البيضاء القوية الواضحة تعزف اللحن تتضاءل الرأس مختفية في الظلال الخلفيه لأن التعبير هنا ليس للعين ولا للفم بل لقدرة اليد على الفعل المادي ، نفس الخطوط اللينة يستعملها عفت لرسم العربات الحنطور والحيوانات والأدوات ليضفي عليها بعداً انسانياً حميماً  فهو يحدد أجسامه وعناصره اللينة المنصهرة بالقلم الأسود أو الرصاص أو الفرشاة لتحتوي أجساده مظهرة العلاقة بين أعضاء الجسد وأجزاءه وكم هو ممتلئ بالعاطفة والحرارة والمشاعر والعلاقة بينه وبين العناصر رغم الفوارق بينها فمشهد عفت مشهد مركب يعتمد على العلاقات المتضادة والمتوافقة بين الأشياء فالخطوط التي تشكل بطن الحصان على سبيل المثال في إحدى لوحاته هي نفسها تعريجات غطاء عربة الحنطور بينما نفس الحصان الملون بنغمية فوق الحنطور يعادله رأس حصان أبيض تحت قدمي الراكبة التي تكسو ساقيها ظلال الألوان ، وفي لوحة أخرى تجد السفيرة عزيزة تحل محل سنام الجمل ويعادل السكون في أعلى اللوحة حركة ديناميكية نشطة شبه طائرة في أرجل الجمل ، في لوحات أخرى تجد علاقة بين يد عازف خفي لا يظهر مع كمان تمسكه امرأة بضة بيدها وتعزف عليه باليد الأخرى في إشارة للعلاقة التي تعزفها امرأة مع رجل على آلة الكون مظهرة ديناميكية تمثل احدى العلامات المميزة لأعمال عفت حسني يحرص عليها ويبتكر لها الحلول التشكيلية بحركة العناصر والشخوص أحياناً وبالتناغم اللوني على سطح اللوحة في أحيان أخرى وبتلك الوحدات الزخرفية التي يزين بها الأجساد والأشكال لتتناقض في حركتها مع سكون الأجساد الجامدة مولدةً رتم حركي كالورود على عرف الديك أو سيقان وأفخاذ النساء والفروع النباتية و الهلال والنجوم وفي تحويل بعض الشخوص إلى حيوانات أو عناصر لخلق نوع من الغرابة البصرية كما ظهر بشكل جلي في إحدى لوحاته التي كان فيها العنصر الرئيسي الحصان وقد تداخل مع جسده عدد من الرؤوس البشرية في هجين لكتلتين وروحين في هذه اللوحة يتراجع الإنسان للعمق في إزاحة له عن مركزية مشهد الروح والوجود وذلك في إطار بحث الفنان عن مكونات أكثر قدرة على ادهاش متلقيه من خلال قدرته على تجميد اللحظة في مكان هو جسد هذا الكائن (الحصان) ولتعزيز هذه الديناميكية واظهارها كان لابد أن تحتوي أسطح لوحاته على بعض من القوة والصلابة لضمان ظهور حرية الحركة في الطيران وتعزيز الحركة البصرية  التي خلقتها الديناميكية وذلك بتحويل الرؤى البصرية لرؤى ملموسة من خلال تهشير سطح اللوحة في التحضير الأولي بشكل خفيف جداً واضفاء ملمس محبب بغرض تحقيق شكل من الصلابة محررا حركة العناصر من ذاتيتها و لإظهار الشفافية في بعض الأجزاء لتتوحد العناصر المتحركة مع النسيج العمل الكلي  فيشعر المشاهد أن اللوحة هي كل متشابك الخط واللون والمساحة والكتلة .
وتكتمل العلاقة الكونية عند عفت حسني بخلق جسر بين عالمه وبين المتلقي فتبدو تلك الأعين الخارجة من لوحاته كمرآة لما يدور في داخل العقل والجسد لمعتها تؤكد على أن العناصر الداخلة في نسيج اللوحة تسعى للتواصل مع المتلقي لتدخله في الحكاية الكونية وتستحث رغبته هو أيضاً في الحكي مستثيرة المتلقي ليضيف على الحكاية أو يسرد ما يعرفه عنها ، كذلك الطيور والحمامات التي تهمس في آذان النساء بحكايات الحنين للعودة والعشق الأول للأصل هي أيضاً تشجع المشاهد على أن يلعب دور الراوي  فتنشأ علاقة حميمة بينه وبين عالم الفنان على أنه ورغم اعتماد لوحات عفت على الحاسة الحكائية للمشاهد فإنها ليست بأي شكل محاولة لإنشاء ثقافة متأثرة بثقافة الفنان لديه فالحكاية خاصة براويها تختلف باختلاف خلفيته ومشاربه عفت فقط يسعى لربط الرائي بثقافته الشعبية أو ليوجد حكايته الخاصة ، وربما كان لخلفيه عفت في الرسم الصحفي ورسوم الأطفال دور في محاولته لبناء هذه العلاقة أو ربما يعود ذلك لجذور أبعد عندما كان طفلاً يشتري أمتار شرائط الأفلام التالفة من السينما ويعيد تلوينها وتكوين مشاهدها زفقاً لمخيلته هو ليكتب عليها إخراج عفت ، أو عندما كان يسمع حكايات ألف ليلة وليلة في المذياع ويتخيل نفسه محل بطل من الأبطال ويعيد بناء الحكاية كما يراها هو واضعاً اسس عالمه الخاص ، تلك هي حكايات عفت حسني الكونية التي يعزفها بموسيقى اللون والشكل والحركة فقط لتطرب متلقيه وتستحثه ليروي معه الحكاية الأزلية .


 







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق