السبت، 30 مايو 2015

الهايبررياليزم ... الواقعية المفرطة بين الحقيقة والمصطنع مقال شذى يحي في مجلة المجلة عدد فبراير2015

شهدت المحافل و المعارض الفنية في العالم و خاصة في أوروبا ، احتفالات عديدة بمرور خمسين عاماً على واحدة من أكثر الحركات الفنية ثورية و تجدداً بعد البوب آرت ؛ وهي حركة الهايبر رياليزم Hyper realism  ، أو الواقعية المفرطة بدءاً من المعرض الذي أقيم على هامش بينالي فينيسيا الماضي تحت عنوان "الزمن-الفراغ-الوجود" Time-Space-Existence مروراً بمعرض متحف برمنجهام  ببريطانيا في الفترة من30نوفمبر2013م ،وحتى30مارس2014م، وانتهاء بالمعرض الذي أقامه متحف بيلباو للفنون والذي اختتم في التاسع عشر من يناير2015م ، وعرض فيه ثمانية و ستون عملاً لأربعة و ثلاثين فناناً يمثلون كافة أجيال فناني مدارس ومراحل الواقعية المفرطة منذ عام1967م و حتى عام2013م.
وقد كانت نشاة الهايبر رياليزم تحت مسمى "الفوتو رياليزم" الواقعية التصويرية في العام 1960م في الولايات المتحدة الأمريكية؛ باندماج مجموعة من الفنانين لرسم مشاهد وأدوات من الحياة اليومية بدرجة عالية من الواقعية،  بالاستعانة بالصور الفوتوغرافية كمصدر لاستلهام لوحاتهم ،ولأن الجيل الأول من فناني الواقعية التصويرية كان من أصول أمريكية؛ فقد غلب أسلوب الحياة الأمريكية و المناظر ذات الطابع الأمريكي على لوحات هذه المرحلة، فكانت لوحات الشاحنات والقطارات والدراجات والسيارات هي الأكثر شيوعاً، مثل: لوحات جون سولت   الذي كان ينتمي لعائلة من عمال مصانع السيارات في ديترويت و كذلك الرائد تشاك كلوز الذي تخصص في تصوير بورتريهات بأحجام عملاقة يعيد فيها بناء الوجه من مجموعة من الصور الفوتوغرافية ،وظل هذا التعبير اليومي الذي اعتبر مبدعوه انه - شكل من الأشكال- عودة للواقعية، ولكن بروح العصر ،وأسلوبه متمردين على لوحات الصالونات ،ومدارس الفن المعروفة في الأسلوب ، وفي الموضوع؛ حيث كانوا يجدون متعة في صدمة الأساتذة مما يفعلونه ومن استغرابهم له ؛فكان هذا هدفهم الأساسي كما يقول رالف جوينجز، الذي قال:"أصيب أساتذتي في الفنون بالدهشة مما كنت أفعله وعدم اتباعي للمدارس الفنية المعروضة وكنت أحس بهذا من اندهاشهم وصدمتهم" ، وظل كذلك حتى عام 1965م عندما نحت مالكولم مورلي مصطلح السوبر رياليزم أو ما فوق الواقعية، واصفاً به التطور الذي طرأ على شكل لوحات الواقعية التصويرية في الفترة من منتصف الستينات وحتى بداية السبعينات فالفنان مازال يستعمل الصورة الفوتوغرافية كمرجعية أساسية للوصول لدرجة قصوى من التعبير الواقعي ينتج عنه مظهر بارد وغير مشخصن لعناصر اللوحة كانعكاس للعالم الصناعي المادي حوله، فهو يسعى للحصول على مظهر واقعي ولكن غير حقيقي ،وكانت هذه هي بداية طرح فكرة الحقيقي والمصطنع في اللوحة و مدى واقعيتها؛ لأن موضوع اللوحة تعرض للنقل مرتين الأولى: من المنظر للصورة الفوتوغرافية، والثانية من الصورة الفوتوغرافية للوحة المرسومة، وقد ظلت هذه الجدليات وهذا الأسلوب حكراً على الولايات المتحدة الأمريكية، حتى عام1973م عندما عرض مجموعة من فنانيها أعمالهم في كاسل دكيومنتا في العام1972م ، ثم أقام تاجر الفن البلجيكي ليزي براشوت معرضاً في بروكسل لثلاثة من أهم فناني الواقعية التصويرية و هم رالف جوينز– وتشاك كلوز- ودون ايدي، واستعمل مصطلحHyper realisme  الفرنسي ذو المرادف الإنجليزي Hyper realism  كعنوان لكتالوج المعرض. وعرض في هذا لمعرض لوحات لأهم الفنانين الأوربيين المتأثرين بالاتجاه أمثال جنولي وجيرهارد ريشتر؛  ولكن  رغم أن مصطلح  الواقعية المفرطة طرح للمرة الأولى، استمر الوصف الأدق والأكثر شيوعاً هو "ما فوق الواقعية"، واستمر عمل فناني ما فوق الواقعية في فترة الثمانينات والتسعينات بنفس الطريقة؛ الاعتماد على النقل من الصورة الفوتوغرافية  كالسابق مع تغيريين مهمين أثرا على الأسلوب و تطوره
 الأول :أنهم كانوا تحت تركيز عالمي أكثر وأصبح لديهم منافسين أوروبيون يضاهونهم في المهارة وتنوع المشاهد .
الثاني: هو الدخول في عصر الصورة الرقمية فبدأ البعض في تصوير اللوحات بأسلوب المربعات الرقمية "البيكسل" وايضاً أسلوب التنقيط والاعتماد على الصور فائقة الجودة.
 وابرز من استخدم هذه الاساليب كان بيتر ماير الذي عمل في تصميم السيارات قبل الفن فرسم لوحاته باستخدام دهانات السيارات باستعمال تقنية الرش، ووصل في بعض الأحيان لاستخدام خمسة وعشرين طبقة من الدهان للوصول لإحساس جسم السيارة المصقول تماماً ، أما تشاك كلوز في لوحته المسماة "مارك" 1978-1979 ؛فقد حول اللوحة إلى مجموعة من المربعات على سطح الكانفاس وأعادة تلوينها مربع مربع بالإير برش مستخدماً الدهانات المعدنية متعمداً إظهار التفاصيل الدقيقة للشعر مع تغيير البؤرة البصرية للصورة الأصلية؛ بينما اختلف أسلوب ريتشارد ايستو لوحة "فندق هولندا" 1984م فكأغلب أعمال استيس لا يوجد عنصر بشري، واعتمد فيها رؤية أكثر من صورة فوتوغرافية لنفس المشهد مازجاً لعدة عناصر مختلفة لخلق صورة ذات بؤرة بصرية مركزة خالقاً إحساساً أكثر واقعية من الصورة الأصلية مع نوع من تأثيرات المرايا في انعكاسات الأشكال على الزجاج ليخلق نوع من الربكة لدى المتلقي فيما يختص بالفراغ.
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين وضع الفنان الأمريكي دينيس بيترسون القواعد الأساسية لمدرسة مبنية على أفكار فلسفية، واسس جمالية، ومبادئ مستمدة من الأفكار التي طورتها الواقعية التصويرية وانضم لهذه المدرسة فنانون من بلدان متعددة، وأسسوا اتجاهاً جديداً متطوراً عن الواقعية التصويرية وما فوق الواقعية هو الواقعية المفرطة "الهايبررياليزم" واستمروا في الارتكاز على الصور الفوتوغرافية كمرجع أساسي لاستلهام أعمالهم التي كانت أكثر تحديداً وتفصيلاً من الأعمال الواقعية التصويرية للتلخيص  والتجريد في بعض الأحيان، والحذف وتحييد المشاعر الانسانية و القضايا السياسية والعناصر الحكائية لأن الواقعية التصويرية انبثقت في الأساس من "البوب أرت " الفن الجماهيري؛ لذلك كانت محكمة ودقيقة وميكانيكية  في تعبيرها عن لحياة اليومية؛ فالواقعية المفرطة بالرغم من جوهرها التصويري أكثر نعومة وتعقيداً وعكساً لتغيرات الحياة والظروف، فهي تسعى لخلق واقع خيالي مصطنع  وليس لإظهار الصورة الأصلية، لدرجة أن البعض ذهب إلى أن الواقعية المفرطة هي سوريالية جديدة؛ فكلتاهما تسعى لخلق واقع افترضي مصطنع؛ ولذلك فإن الملامس والمؤثرات الضوئية والظلال عادة ماتكون أكثر حلمية ودرامية من الصور الفوتوغرافية المصدر، وحتى عن المصدر الطبيعي نفسه،ولقد اعتمدت الواقعية المفرطة في تنظيراتها على نظرية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه "المصطنع والاصطناع" والذي شرح فيه الحقيقة المفرطة  المصطنعة Hyper Reality  بقوله :
"لم يعد التجريد اليوم تجريد خريطة أو نسخة أو امرأة أو مفهوم، ولم يعد الإصطناع اصطناع إقليم أو كائن مرجعي؛ لقد أصبح التجريد توليد بالنماذج لواقع بلا أصل وبلا واقع، واقع فوق واقعي؛ فالإقليم لا يسبق الخريطة ولا يستمر بعدها اليوم ،مع الانتقال إلى الفضاء لم يعد مجاله مجال الواقع أو الحقيقة فلينفتح عصر الإصطناع على تصفية كل النظم المرجعية ،لقد غدا ما هو فوق واقعي بمنأى عن كل تمييز بين الواقعي و الخيالي، ولا يترك مجالاً لغير التكرار المداري للنماذج، ولغير التوليد المصطنع للفوارق؛ فبودريار يرى أن الانتقال من الرموز التي تحجب أمراً ما إلى الرموز التي تحجب عدم وجود اي شيء تشكل المنعطف الحاسم؛ فالرموز الأولى ترد إلى لاهوت الحقيقة و السر، وماتزال الإيد لوجيات تدخل في عدادها، أما الرموز الثانية فتفتح عصر المصطنع والإصطناع عصر ما فوق الواقعية ، وهو ما رصده أمبرتو ايكو في مقالته التي كتبها عقب زيارته للولايات المتحدة عام 1975م بعنوان "رحلة خلال الحقيقة المفرطة"، ووصف كيف تسعى الثقافة المعاصرة إلى إعادة خلق واقع مزيف ومصطنع؛ فيسعى المبدع لمحاولة خلق واقع فوق واقعي لايجاد حالة أفضل من الواقع، مدللا على ذلك بما يحدث في عالم ديزني قائلاً إن وراء هذه الأقنعة و الكائنات محاولة لتسويق شيء هو أفضل من الحقيقة المعاشة، واصفاً أمريكا في هذا المقال بأرض التزييف؛ حيث التاريخ المصطنع و الطبيعة المصطنعة و الثقافة المصطنعة و أن رحلته هي حج في دنيا الهيبورياليتي؛ حيث الواقعية المفرطة هي عالم من التزييف وحيث المحاكاة لا تهدف لإعادة إنتاج الواقع بل لإيجاد واقع محسن ؛ففن الهايبررياليزم يسعى لخلق وهم لحقيقة لا يمكن أن توجد في الصورة الفوتوغرافية ولا حتى في الشكل الأصلي بل هي حياة مفترضة في حد ذاتها مصطنعه بكل المشاعر والمذاهب والإعتقادات والعناصر الخاصة بها ففنان هذه المدرسة قد يضيف للصورة الفوتوغرافية  أشياء غير موجودة أو لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ويضيف المؤثرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يرغبها ولذلك تعد الواقعية المفرطة الواقعية التصويرية واقع افتراضي مصطنع.
وتتنوع مواضوعات فناني الواقعية المفرطة ما بين البورتريه، والتشخيص، ورسم المنظر الطبيعي ،ومناظر المدينه ،والمنظر الدرامي الحكائي مع الحفاظ على الصورة الفوتوغرافية كوسيط لمحاكاة الواقع، يتم من خلاله محاولة لخلق حقيقة متوهمة بصرياً ذات محتوى اجتماعي أو سياسي أو ثقافي؛ فبعض فناني المدرسة تناول  موضوعات مثل: فضح الأنظمة القمعية، أو التعرض لتراث عدم التسامح و الكراهية ،وتناولوا مآسي التطهير العرقي، ومشاكل اللاجئين مثل دينس بيترسون    وجوتفريد هيلينوين.
 ويعتمد فناني الهايبررياليزم بالدرجة الأولى على تأثيرات الظلال على الأشكال والمساحات والتكوينات؛ لخلق مظهر بصري يتعدى تسطيح الكانفاس ،وعادة ما تكون اللوحة أضعاف أو عشرين ضعف الصورة الفوتوغرافية المصدر أكثر نقاء في اللون ودقة في التفاصيل و الإير برش "مسدس اللون" هو الأداة الأكثر شيوعاً بين فنانيها باستعمال ألوان الأكريليك أو الألوان الزيتية وفي بعض الأحيان خليط من الاثنين ، وهناك أسلوب رقمي رائده الفنان بيرت مونروي تبدو فيه اللوحات كأنها مرسومة من الفوتوغرافية ولكنها مجهزة بالكامل على الكمبيوتر.
 والجدير بالذكر أن كثير من الفنانين الرواد في حركة الواقعية المفرطة مثل إيستس   وكلوز طوروا فكرهم وأساليبهم على مدى النصف قرن الذي هو عمر الحركة "فالواقعية المفرطة" هي حركة مفتوحة ومتطورة وليست مغلقة على نفسها ،ومازال أغلب روادها ينتجون ويواكبون تنوع المصادر وتقدم التكنولوجيا ،وظهور موتيفات ،وإندثار البعض الآخر في إطار إخلاصهم لمصدرهم الأساس الصورة  الفوتوغرافية؛ ليبهروا العالم برؤيتهم وإصرارهم وواقعهم البديل






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق