إمرأة حسناء قسماتها عربية عيناها سوداوان واسعتان
وبشرتها بلون الحنطة ولها شعر غجري داكن
تتلوى وتتثنى نصف عارية مستعرضة جسدها الملفوف رغم ميله للإكتناز ،وتهز ردفيها
الفخيمين بحركات افعوانية خليعة تثير الشهوات وتدغدغ الغرائز أثناء تمايلها الماجن
على إيقاع الآلات الشرقية التي تعزف لحن صاخب.
هذه هي الصورة التي سوف تقفز لذهن أي أمريكي بمجرد أن
يذكر أمامه إسم "ليتل إيجبت" Little Egypt أو مصر الصغيرة صورة رسختها وكرست لها الكثير من
الأعمال الأدبية والمسرحية والغنائية وأيضاً الأفلام الهوليودية منذ أكثر من مئة
عام وارتبطت بها العديد من المصطلحات التي هي الأخرى حملت بإيحاءات ومعان بذيئة
ومهينة مثل الهوتشي كوتشي "Hochy-Khoochy" وهي تحوير لهشك بشك، والشيك
أند شيمي "Shake
and shimmy" أو الهز
والتمايل وكذلك المصطلح الأشهر البيلي دانس"Belly-Dance" أي رقص البطن أو المعدة وهو الاسم الانجليزي الذي اصطلح عليه
لتعريف الرقص الشرقي.
فمن هي إذن هذه المرأة التي حملت هذا الاسم العجيب وهل
حقاً كانت سيئة السمعة وبهذه الخلاعة؟ وكيف وصلت إلى أميركا وحفر اسمها في الثقافة
الشعبية الأمريكية بهذه القوة؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد من العودة إلى القاهرة
نهايات القرن التاسع عشر بالتحديد العام1891م حيث كان الخديوي توفيق هو حاكم مصر
في تلك الفترة دائم السعي في أن يثبت أن مكانة بلاده التي تسبب في إحتلالها من قبل
الإنجليز في العام1881م لم تتأثر بسبب الاستعمار ولذلك كان حريصاً أشد الحرص على
انتهاز الفرص للمشاركة في المحافل الدولية وخاصة المحفل الأهم في تلك الفترة وهو
المعرض العالمي للفنون والصناعات الذي كان يقام مرة كل خمس سنوات في مدينة غربية
ويعد بمثابة فرصة لإظهار الأمم لعظمتها ولكن ولأن مصر كانت مستعمرة ومكانها
الطبيعي في المعرض هو رواق المستعمرات كانت حاشية الخديوي تتحايل بالزعم أن تمثيل
مصر في المعرض يأتي من قبل مواطنين مصريين ومهتمين بمصر من جنسيات أخرى للحصول على
جناح مستقل فيتم تعيين مدير للعرض وتقوم الحكومة المصرية بكافة التسهيلات والمصاريف
في الخفاء، وقد دفع النجاح المذهل للجناح المصري في معرض باريس1889م وخاصة للجزئ
الذي عرف "بشوارع القاهرة" الخديوي لأن يطلب من معاونيه الإعداد المبكر
للدورة التالية في شيكاغو والتي ستقام في1893م والاهتمام بصفة خاصة بالرقص الشرقي
الذي ابهر زوار باريس وجعل العرض المصري هو اكثر العروض شعبية في المعرض ،وهكذا
اسندت مهمة تنظيم شوارع القاهرة إلى السيد جورج بنجالوس وهو مصرفي تركي من أصول
يونانية وبدعم كامل من الحكومة المصرية للخروج بأفضل عرض مبهر وقد استمرت الحكومة
على حماسها حتى بعد وفاة الخديوي توفيق وتولي ابنه عباس حلمي الحكم بل إن الخديوي
الشاب كان أكثر حماسة من ابيه الراحل، رغم هذا فإن الأمر لم يكن سهلاً خاصة فيما
يتعلق بالراقصات فشيكاغو لم تكن باريس إضافة إلى أن طول الرحلة إلى أرض مجهولة
والغياب لمدة طويلة عن القاهرة جعلا من مهمة بنجالوس في توظيف الراقصات سواء كن
شهيرات أو حتى مغمورات مهمة شبه مستحيلة مما دفعه لاستعمال الحيلة كما كتب في مقال
نشر في مجلة كوزمو بوليتان الأميريكية في أحد أعداد عام1897م وعنونه "قصة
شوارع القاهرة" ويحكي بنجالوس في المقال أنه أعلن في العام1891م عن مسابقة
للراقصات ليشاركن في معرض شيكاغو1893م وبالطبع لم تتقدم ولا راقصة فقام هو بنشر
إشاعة في أرجاء أحياء الراقصات في القاهرة وهي شارع محمد علي والأزبكية وروض الفرج
وعماد الدين مفادها أن الآنسة فريدة مظهر القادمة من حلب والتي حققت في تلك الفترة
شهرة مدوية في دنيا العوالم في زمن قياسي قد تقدمت للمسابقة ولم يتم قبولها لأنها
ليست على المستوى المطلوب ,ودفع هذا العديد من الراقصات الشابات اللاتي كن يغرن من
صعود الآنسة فريدة السريع للتقدم للمسابقة تلا ذلك طبعاً غضب شديد من فريدة
ومحاولات للنفي ثم وبإيعاز من بنجالوس نفسه نصحها بعض المقربين منها أن تتقدم
للمسابقة فعلاً وتعلن إنسحابها بعد إعلان قبولها لترد على المشككين ،وفعلاً تقدمت
فريدة للمسابقة وقبلت ولكن دفعها إحساسها بالنجومية المفاجئة التي أحاطت بها وحبها
للمغامرة أن توافق فعلاً على السفر لشيكاغو وهكذا تكون لدى بنجالوس فريق من
الراقصات هن "فاطمة الحوري– فاطمة الحصرية- هانم- أمينة إبراهيم- سعيدة محمد-
صديقة- نبوية- فهيمة- زكية- ماريتا- حسنية" وبالطبع بطلة عرضه فريدة مظهر
والتي افردت لها رقصة خاصة بعنوان "فاتيما الجزائرية قادمة إليكم من
المغرب"، وعلى الرغم من ان أمريكا عرفت الرقص الشرقي منذ 1876م عندما عرضت
أكثر من راقصة في مئوية مدينة فلادلفيا لكن عرض 1893م كان هو الإحتكاك الحقيقي مع
الجمهور الأميريكي الذي زار أكثر من إثنين مليون فرد منه الجناح المصري واذهلهم
مسرح شوارع القاهرة براقصاته وبخاصة فريدة مظهر التي أطلق عليها الجمهور اسم
"مصر الصغيرة" لأن مقاييسها الجسدية الممتلئة لم تكن مألوفة لدى
الأميريكيين وبعد انتهاء المعرض أكمل بنجالوس مع راقصاته عروضهم في جولات مع
المعرض العالمي عبر أنحاء أمريكا فتوجهوا غرباً إلى سان فرانسيسكو حتى العام1895م ثم
شرقاً إلى نيويورك في خريف نفس السنة وانفصلت عنهم فريدة في نيويورك بعد أن أتاها
عرض للرقص في كازينو كبير هناك ،ولكن هذا لم يستمر طويلاً حيث ثار بعض المحافظين الذين
رأوا أن رقصات "الهوتشي كوتشي" كما سموها وما أطلقت عليه الصحف رقص
البطن Belly dance وهي الترجمة الانجليزية
للمصطلح الفرنسي Danse du
ventre الذي
استعملته الصحف الفرنسية للدلالة على الرقص الشرقي في معرض باريس1889م التي تقدمها
فريدة هي شفرة وثنية شيطانية استخدمتها سالومي لتنجح في إقناع هيرودوس ليقطع رأس
المعمدان، وأبلغوا الشرطة التي هاجمت الملهى مما دفع فريدة لمغادرة نيويورك عائدة
لشيكاغو خاصة بعد رفضها لعرض من متحف نيويورك لتؤدي رقصة النحلة الخليعة التي ذكر
الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير أن الراقصة كوتشك هانم رقصتها له في مصر، مما دفع
المتحف لأن يتعاقد مع راقصة كارنفالات كندية تدعى كاثرين ديفين وتطلق على نفسها
اسم الهند الصغيرة لأداء الرقصة فقامت كاثرين بتغيير إسمها إلى "عائشة وهبي"
Ashea-Wabe ليعطي إحساساً عربياً ورقصت
مدعية أنها هي نفسها مصر الصغيرة، وحتى هذا التاريخ لم تحتل مصر الصغيرة صفحات
الصحف ولم يكن لها أثر كبير في الثقافة والحياة الشعبية الأميريكية رغم شهرتها
النسبية حتى شهر ديسمبر من العام1896م عندما احتل اسم مصر الصغيرة الصفحة الرابعة
في كل صحف أميريكا بعد حفلة عزوبية أقامها اثنان من أثرياء نيويورك هما الأخوين
بارنوم سيلي "Barnum-Seeley" واستعانا بخدمات كاثرين ديفين
منتحلة لقب مصر الصغيرة لتؤدي دوراً خليعاً في عرض مقتبس من رواية للفرنسي جورج دو
موريير صدرت عام1890م اسمها "تريللبي" وكان من المفترض أن تتعرى البطلة
في نهاية العرض وبالطبع أبلغ المحافظين الشرطة التي داهمت الحفل قبل تعري الآنسة
ديفين وثارت ضجة هائلة حول كيف تداهم الشرطة حفلة خاصة لصفوة المجتمع واستغلت
ديفين تلك الفضيحة التي استمرت لأشهر لجني المزيد من الشهرة والمال فقامت ببطولة
مسرحية بعنوان "مصر الصغيرة حفلة عشاء آل سيللي" عرضت في مسرح
الأوليمبيا ببرودواي وحصلت على الحقوق المادية عن أغنية ألفها جيمس ثورنتون بعنوان
شوارع القاهرة، كما واصلت الرقص الخليع في عدة أماكن مما شجع العديد من النساء
الأخريات على انتحال إسم مصر الصغيرة مثل من عرفت باسم عائشة دي جميل، وحدا أيضاً
بفريدة مظهر التي كانت قد استقرت في شيكاغو وتزوجت من صاحب مطعم يوناني يدعى
اندرياس سبيروبولس لأن تقيم دعوة قضائية عليها وتنشر تكذيبات في الصحف لكن ضجة
ديفين استمرت هي المتصدرة خاصة بعد أن رفعت قضية على الأخوان سيللي تتهمهما فيها
بأنها لم يعطياها حقوقها المالية بالتسبب لها في ضرر معنوي، كذلك بسبب أن شركة إديسون
التي أنتجت أفلام ترويجية قصيرة للراقصات الثلاث ديفين- دي جميل- ومظهر وروجتها تحت
اسم موحد هو القاهرة الصغيرة لتكتمل الصورة السيئة السمعة بإشاعة أن الروائي
الأميريكي الشهير مارك توين قد أصيب بأزمة قلبية عقب مشاهدته لفريدة مظهر وهي ترقص
،زاد على ذلك الوفاة المفاجئة لكاثرين ديفين عام1908م مختنقة بالغاز تاركة وراءها ثروة
من الرقص الخليع قدرت بمئتي ألف دولار وهو مبلغ أكثر من ضخم بمقاييس تلك الفترة
وفي بلاد كانت تجتاحها حمى الذهب والحلم بالثراء السريع وسط مهاجرين فقراء لفظتهم
بلادهم ،كانت هذه إشارة لأن تنتحل كل راقصة في حانة أو ماخور الاسم الذي جلب هذا
الكم من الثراء على مدعيته الأولى فظهرت امرأة تتعرى في كل صالون وحان وفندق رخيص
في أمريكا تدعي أنها مصر الصغيرة ولم يكن لفريدة مظهر بالتأكيد طاقة لملاحقة كل
مدعية لشهرتها ،لكن فريدة مظهر حافظت على صورتها كفنانة محترمة ومؤدية لفن شرقي
مبهر في مدينتها حتى أنها دعيت كأحد القامات الثقافية لترقص وهي في الثانية
والستين في المعرض الذي أقامته شيكاغو بمناسبة مرور مئة عام على إنشاءها تحت عنوان
مئة عام من التقدم عام1934م، ولم يظهر اسم فريدة مظهر سبيروبولس مرة أخرى إلا في
عام1936م في أوراق دعوة قضائية رفعتها ضد شركة مترو جولدوين ماير منتجة فيلم
"زيجفيلد العظيم" والذي ظهرت فيه شخصية مصر الصغيرة بشكل لم تره فريدة
يليق بها وكتب في أوراق الدعوى أن الشركة لم تحصل على تصريح منها بصفتها مصر
الصغيرة الأصلية من معرض1893م وأنها لم ترتدي يوماً الملابس التي ارتدتها الممثلة
التي قامت بالدور أو قامت بالحركات التي قامت بها ،لكن الدعوى لم تكتمل نظراً
لوفاة فريدة في العام1937م وشيعتها شيكاغو بجنازة مهيبة ومسيرة صامته ،وبوفاتها
فتح الباب على مصراعيه لترسيخ الصورة النمطية للقاهرة الصغيرة وللرقص الشرقي في
الذهن الجمعي الأميريكي بأفلام مثل "مصر الصغيرة1951م" من إنتاج
يونيفيرسال وبطولة روندا فليمنج، وأغان مثل أغنية "مصر الصغيرة البينج
واليانج1961م" التي غنتها فرقة كووسترز وغناها ألفيس بريسلي أيضاً واستمرت
هذه الحمى في السبعينات والثمانينات فذكرت في أغنيات لواي ويلي هوبارد
"حبيبتي ترقص مثل مصر الصغيرة" ،وهانك ويليام الذي ذكرها في أغنية
بعنوان "امرأة عارية وزجاجة جعة" أما الأعمال الأدبية فقد ألف توماس
ماكموهان رواية في نهايات القرن التاسع عشر بعنوان "أن تحب مصر الصغيرة"
وبالطبع المسرحية التي عرفت باسم "شوارع القاهرة" أو "خادمة ريفية
صغيرة" وعرضت في برودواي على مدى أعوام كل هذه الأعمال أضيفت هي أيضاً
لأسطورة المرأة الخليعة التي كرست للصورة الاستشراقية واثبتت تفوق الشرق على الغرب
وخلقت منها صورة نمطية امتزجت فيها ملامح الشرق على الغرب امتزجت فيها ملامح فريدة
بخلاعة كاثرين مع حكايات كوتشيك فلوبير الجنسية، هذه هي مصر الصغيرة التي رسخت في
أذهان الأميريكيين إلى يومنا هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق