قليلون من يعرفون أن المهاتما غاندي كان أحد
كبار الداعمين للحق الفلسطيني وأنه اتخذ موقفاً رافضاً للحركة الصهيونية منذ
نشأتها وكتب العديد من المقالات ضد ما يحدث في فلسطين وضد إستقواء اليهود الصهاينة
بالإنجليز والأمريكان ،ظل حتى آخر لحظة في حياته متمسكاً برأيه هذا حتى أنه نشر مقالاً قبل اغتياله بحوالي
العام وبضعة أشهر في جريدته هاريجان ليؤكد فيه تمسكه برأيه هذا ،وجدير بالذكر أن
هذه هي المرة الأولى في مصر التي تنشر فيها الترجمة العربية لمقاله الذي نشره تحت
عنوان اليهود وفلسطين .
ومنذ القدم كان هناك حبل سري يربط ما بين المنطقة العربية وشبه القارة
الهندية فالوطن العربي كان ومازال طريق التجارة والثقافة من الهند للغرب ومن الغرب
للهند أو كما سمي قديماً طريق التوابل ،والهند كانت ومازالت طريق التجارة والثقافة
الذي يربط بين الوطن العربي والصين وجنوب شرق آسيا الذي سمي قديماً بطريق الحرير
وقد توالت غزوات الفرس والمقدونيين والرومان على العرب والهنود عبر هذه الطرق كما
انتقلت السلع والثقافات والعادات ولذلك وحتى يومنا هذا كان الشأن الهندي شاغلاً
للعرب كما هو الشأن العربي بالنسبة للهنود ،ولم تكن القضية الفلسطينية في عصرنا
الحديث بعيدة عن نظر السياسيين الهنود حتى في فترة كفاحهم ضد الاحتلال الإنجليزي
ولعل هذا ما يفسر إقدام حزب المؤتمر الهندي في فبراير من العام 1938م وهو في ذروة
نضاله ضد الاستعمار على إصدار بيان يدين فيه بريطانيا لتبنيها مشروع التقسيم كما
سجل إدانته أيضاً لاستخدام العنف وفرض أوضاع على الأرض وإجبار العرب على قبولها
وعبر عن تعاطفه مع العرب في صراعهم من أجل الحرية ، في سبتمبر من العام نفسه أصدر
بيان آخر يطالب فيه بريطانيا بالتخلي عن سياستها وترك الأمر لليهود والعرب لإصلاح
ما بينهم من مشكلات كما ناشد الحزب اليهود بألا يتخذوا من الإمبرياليه البريطانية
ملاذاً لهم.
ولم تعبأ بريطانيا ولا اليهود برأي حزب هندي
بسياساتهم في فلسطين وأرجعوا هذا لخوف الحزب من دعوات تقسيم الهند على أساس ديني
بين المسلمين والهندوس وهو ما سوف يحدث فيما بعد ،لم يهتم الصهاينة إلا بكلمات رجل
واحد فقط ظلوا يحاولون أن يهونوا أو يوجدوا مبررات وأسباب لكي يخففوا من وقع
كلماته عبر المؤسسات البحثية الغربية ومراكز البحوث الصهيونية رغم مرور مايقرب من
سبعين عاماً على وفاة ، "موهان داس كارام شاند غاندي" (1869م- 1948م) أو
الماها آتما "الروح العظيمة" أبو الهند صاحب مبدأ اللاعنف الرجل الذى
قال "إن الذي يدفع الخير على الشر فكانه فتح العالم" ،كان إهتمام غاندي
بقضية فلسطين مبكراً جداً فقد عبر في مقابلة أجراها لجريدة الدايلي هيرالد
اللندنية في 16مارس1921م عن إيمانه بوجوب سيطرة العرب على المناطق المقدسة وأن هذا
في مصلحة إستقرار الهند والمسلمين الهنود خاصة مع حفظ كل حقوق اليهود والمسيحيين
في أداء شعائرهم الدينية كاملة التي على حد قوله لا تستطيع حتى المدافع أن تمنعهم
من آدائها ،وبعد عدة أيام في 23مارس من نفس العام كتب مقالاً في جريدة الهند
الفتية Young- India قال فيه أن الوعد الذي منحته
إنجلترا للصهاينة في فلسطين ومحاولة تصويره على أنه المنقذ الوحيد من الشتات غير
مقنع بالنسبة له وأنه لا يستطيع أن يلوم جندياً مسلماً يذهب للقتال مع أبناء جلدته
ضد تسليم أراضيهم لليهود وأنه مع حرية العبادة الكاملة لجميع الأديان مع بقاء
فلسطين وما أطلق عليه جزيرة العرب تحت حكم الخلافة ومنع تهجير الفلسطينيين وهذا
يعكس وعياً قوياً بالقضية الفلسطينية وأبعادها ،وفي حديث له لجريدة "جويش
كرونيكال" صرح أن الرغبة الصهيونية في احتلال فلسطين ليس لديها أي قدر من
القبول لدي بإمكاني أن أتفهم رغبة بعض اليهود في العودة لفلسطين وبإمكانهم أن
يفعلوا هذا ولكن بدون الاستعانة بالقوة منهم أو من بريطانيا بإمكانهم أن يذهبوا
بسلام وبصداقة مع العرب أما جبل صهيون المقدس فمحله القلب ولذلك فمكان الصهيوني من
الممكن أن يكون أي بقعة من العالم، وقد دفعت هذه التصريحات الصحيفة لأن تكتب في
نفس العدد "إن السيد غاندي هو واحد من أقوى سته زعماء في العالم على قيد
الحياة وأن رأيه في أي موضوع لابد ان يأخذ بعين الاعتبار رغم اعتبار البعض أنه ذو
قيمة ضئيلة ولا يمكننا أن ننعت الرجل بأنه معاد للسامية خاصة وأنه ذكر أن لديه
العديد من الأصدقاء اليهود ولكننا فيما يختص بتصريحاته عن الحركة الصهيونية فنحن
لنا ميراث حضاري كبير في كل دول العالم ولسنا بحاجة لتعزيزه ببضعة مستوطنين في
فلسطين، فنحن بحاجة لوطن نبدي منه رأينا السياسي ويكون لنا صوت في العالم أما فيما
يختص بالسلام ومقابلة الإساءة باللاعنف وخاصة مع أعداء السامية فنحن ننصحه بنشر
هذا المذهب بين بني جلدته لعل الأمور في بلادهم تصبح اكثر إستقراراً" .
وقد أرسل العديد من القراء إحتجاجهم للصحيفة
على تصريح غاندي بأن ما يحاول الصهاينة فعله في فلسطين هو إعادة إحتلال ،كما أرسل
مستوطن يدعى حاييم جرينبرج رسالة لغاندي في العام1937م يحاول فيها تغيير رأيه
ويسأله لماذا يحرم الشرق من لمحة من تقدم الغرب يقدمها له اليهود المستقرين في
فلسطين ويدعي أن السكان الأصليين كما يشير للعرب في منتهى السعادة وقد استفادوا
كثيراً من الخبرات والمعارف والخدمات التي يقدمها لهم الصهاينة ويشبه اليهود في
أمريكا وأوروبا بأنهم كمنبوذي الهند الذين يدافع غاندي نفسه عن قضيتهم وأرض
الميعاد هي فرصتهم للخلاص لأنها أرض أجدادهم الأول التي يسكنها الهمج الآن مختتماً
خطابه له بجملة مستفزة هي "الإسلام ليس لك صوتك هو صوت الهند الفتية".
ولكن غاندي لم يغير رأيه ونشر بعد بيانات حزب
المؤتمر التي تلت قرار التقسيم مقال في صحيفته هاريجان Harijan بتاريخ
26نوفمبر1938م كتب فيه كلمة إلى اليهود الموجودين في فلسطين "ليس لدي أدنى شك
في أنكم تسلكون طريقاً خاطئاً ففلسطين بالمفهوم الذي جاء بالتوراة ليس مكاناً جغرافياً
إنها في قلوبكم" ويقول في آخر المقال "إنني لا أدافع عن تجاوزات العرب
فقد كنت آمل أن يختاروا طريق اللاعنف من أجل ما يعتبرونه بحق إغتصاب غير عادل
لبلادهم ولكن وحسب القواعد المنصوص عليها لا شيء يمكن أن يقال عن المقاومة العربية
في مواجهة تفوق ساحق" ،وقد أرسل صديقه مارتن بوبير رداً على مقاله من القدس
بتاريخ 24فبراير1939م ورد فيها "أنت تسأل لماذا لا يكون اليهود مثل بقية الناس
على الأرض يتخذون من البلدان التي ولدوا فيها وترعرعوا وكسبوا أرزاقهم وطناً
وبيتاً؟ لأن مصيرهم مختلف عن اي شعب آخر في الأرض قدرهم ألا يجدوا العدل إلا في
هذه الأرض من حقهم أن تكون لهم أرض ومركز يتوجه قلوبهم نحوه واستطرد قائلاً في
موضع آخر نحن نسعى لأن نوجد مجتمع يهودي حر على هذه الأرض كما وعدنا الكتاب المقدس
وتأتي أنت لتقرر أنها خطيئة ولا إنسانية محاولة إحلال اليهود محل العرب، ماذا تعني
بكلامك في ان الأرض تعود لسكانها لمن سرقوها واستوطنوها ويحرم منها أصحابها
الأصليين إن كل ما يهمك هو حقوق الملكية ولا يهمك حق الطرف الآخر في أرض حرة؟!!
،إن المستوطنين لم يأتوا إلى فلسطين كمستعمرين ولا لاستعباد السكان الأصليين إنهم
يعملون بأيديهم حاملين محاريثهم على أكتافهم هذه الأرض تعرفنا لأننا نعرفها".
وقد استمر الجدل والخطابات الغاضبة لعدة أشهر
بعد المقال تلا ذلك ثورة اليهود على غاندي لكتاباته التي تطالبهم بإستعمال اللاعنف
في تعاملهم مع ألمانيا تلا هذا قيام الحرب العالمية الثانية وتحول أنظار العالم
إلى مايدور فيها ،وبحلول مارس من العام1946م حاول الصهاينة مرة أخرى أن يكسبوا
المهاتما في صفهم فذهب وفد برئاسة هونيك Honich رئيس المجمع
اليهودي العالمي ليناقشوا المهاتما في مسألة الاعتراف بالوطن القومي لليهود في
فلسطين وكما ذكر لويس فيشر في أوراقه فإن السؤال الأول الذي سأله لهم غاندي لماذا
فلسطين؟ وكان الجواب لأن هناك ستمائة وخمسين ألف يهودي مستقرين فيها بالفعل وأنها
ملاذ آمن للناجين من أوربا ،وكان رد المهاتما إن ما تريدونه لا استطيع أن أعطيكم
إياه إلا بموافقة مسلمي الهند ثم أضاف كيف حصلتم على الأراضي التي تحت أيديكم وهل
يعمل بها عرب؟ وكان الرد إنهم اشتروا أغلبها من اصحابها وأنهم يسعون لخلق نوع من
الإحساس الوطني بين المهاجرين اليهود ولذلك لا يسمحون للعرب بالعمل فيها، وأن جميع
الأطراف ستكسب فليس لدى العرب ما يخسرونه لأنه منذ العام1917م استصلح اليهود أراضي
قفراء لا يسكنها أحد ،فسأل غاندي مرة أخرى ماذا عن العرب؟ فرد سيلفرمان أن هناك
خمس ممالك مستقلة يمكنهم اللحاق بها بالإضافة إلى أن سوريا ولبنان على وشك
الإستقلال، فرد غاندي إذن هم سيتركون أرضهم إذن فهم سيخسرون أراضيهم فكان ردهم
كانوا يسكنونها في ظل الحكم العثماني ، فكان رده: أنتم تريدون العرب أن يضحوا بشيء
يملكونه لصالحكم ؛ فكان ردهم: نحن نريد منهم تضحية بسيطة لكي يتحقق العدل في الموقف
ككل، وفي نهاية اللقاء سألهم غاندي: هل لي أن أسأل ألا يمكنكم السيطرة على
العصابات ؟ فكانت الإجابة أنت نفسك تعرف مدى صعوبة السيطرة على الشباب لكنهم لو
أحسوا بأن هناك آلية لتنفيذ وعد بلفور سيكون هذا له تأثير ناجح، وكان رد غاندي في
النهاية بإمكانكم مقابلة السيد محمد علي جناح وبدون موافقة المسلمين أخشى أنه لا
إمكانية لفعل شيءفي الهند.
وقد روج الصهاينة أنهم استطاعوا أن يقنعوا
غاندي بتبني قضيتهم وأرسل له أحد أصدقاءه مقالاً يفيد ذلك فنشر غاندي مقاله السالف
الذكر ليوضح أنه لم يغير رأيه ولم يحد عنه ، وكانت آخر كلمات غاندي حول النزاع
العربي الصهيوني هي إجابة لسؤال طرحه عليه مراسل وكالة يونايتد بريس أوف أمريكا
ونشر في الصحف الهندية بتاريخ 2يونيو1947م كان نصه : في رأيك ما هو الحل المناسب
للمشكلة الفلسطينية؟
وكان رد المهاتما : أن يوقف اليهود كل أشكال
الإرهاب وكافة أشكال العنف.
لتنتهي حياة المهاتما غاندي الرجل الذي حارب
التعصب والعنصرية بعد ذلك بعدة أشهر في 30يناير1948م على يد ناثورم جوتس أحد
المتعصبين الهندوس.
ترجمة نص مقال غاندي :اليهود وفلسطين
المهاتما غاندي
جريدة هاريجان 14يوليو1946م
حتى الآن ابتعدت كلياً عن الادلاء بأي
تصريحات علنية فيما يختص بالصراع العربي اليهودي وجاء هذا الامتناع لأسباب وجيهة
وليس معنى هذا أنني لا أولي إهتماماً بهذه المسألة ،بل يعني أنني لا أجد نفسي
معداً بما فيه الكفاية وليس لدي القدر الكافي من المعرفة الذي يؤهلني للحديث في
تلك القضية ،لقد حاولت أيضاً أن أتغاضى عن إبداء وجهة نظري في أحداث عالمية أخرى لكن
أربعة أسطر في مقال حفزوني للحديث ،لقد وصلتني رسالة من صديق تلفت نظري إلى جمل
مقتطعة خارج سياقها تضمنها المقال الذي ذكرت والصحيح أني قلت فعلاً مثل هذه الأشياء
في حديث طويل مع لويس فيشر في الموضوع المشار إليه ،فأنا مؤمن تماماً بأن اليهود
ظلموا من العالم وعوملوا بقسوة ومازلت أتأثر حتى الآن من كلمة جيتو الأسم الذي
أطلق على أماكن معيشة اليهود في الدول الأوروبية والمعاملة القاسية التي تلقوها
والمحاكمات عديمة الرحمة لهم ولكن لم يذكر أبداً سؤال العودة إلى فلسطين ،فالعالم
كله يجب ان يكون وطنناً لليهود على أقل تقدير لمساهماتهم المتميزة في تقدمه وفي
رأي أن اليهود ارتكبوا خطأ فادحاً عندما سعوا لفرض وجودهم في فلسطين بمعونة أمريكا
وبريطانيا وباستخدامهم للإرهاب الصريح ،فمواطنتهم وهويتهم العالمية من الممكن أن
تجعلهم جماعة مرحب بها في كل مكان فهم لديهم قدرات على التدبير ومواهب متنوعة
وتفوق صناعي مما يجعلهم محل ترحيب في أي بلد ،أما التحامل عليهم فمبني على قراءة
متعصبة وخاطئة للعهد الجديد وهي بمثابة وصمة عار في جبين العالم المسيحي أدت إلى
خلق كم هائل من التحيز والعنصرية ضدهم ،فإذا أخطأ يهودي سيتم لوم المجتمع اليهودي
ككل على خطأه وإن اكتشف يهودي كألبرت أينشتين أو ألف أحدهم مقطوعة موسيقية بديعة
ينسب الإنجاز لصاحبه وليس لمجتمعه فلا عجب من تعاطفي مع اليهود في محنتهم البائسة
هذه ولكني تصورت أن المحنة ستعلمهم دروس السلام ،لكن لماذا كان عليهم ان يعتمدوا
على الأموال الأمريكية والأسلحة البريطانية ليفرضوا أنفسهم على أرض لا ترحب بهم؟
ولماذا كان عليهم اللجوء للإرهاب لفرض هبوطهم القسري على فلسطين؟ كان يمكنهم
الاعتماد على سلاح لا مثيل له الا وهو سلاح اللاعنف الذي بشر به أنبياؤهم الأوائل
وعيسى هذا اليهودي الذي ارتدى تاج الشوك وورث أنات العالم لو فعلوا لأصبحت قضيتهم
العالم بأجمعه ، وليس عندي شك أن هذا لو كان قد حدث لكان أفضل وأنصع الأشياء التي
أعطاها اليهود للعالم على كثرة ما أعطوه ،وأن بركته المضاعفة كانت ستجعلهم سعداء
وأغنياء بالمعنى الحقيقي للكلمة وبلسماً لهذا العالم المليء بالألم .
بانشاجاني - 14يوليو1947م
ترجمة: شذى يحي
مقال المهاتما غاندي -بجريدة بانشاجاني -14يوليو 1947م |
تهجير الفلسطينيين |
تهجير الفلسطينين وخروجهم من ديارهم |
صورة لوصول اليهود إلى فلسطين من شتى بقاع الأرض عبر البحر |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق