الجمعة، 27 مايو 2016

صور نادرة من دفتر ذاكرة قناة السويس - مقالي بمجلة "المجلة" عدد أبريل 2016

أحد مواقع الحفر الجاف أثناء العمل في شق الممر المائي تصوير جاستين كوزويلسكي

وقف العملاق الأسمر سامقاً بكل فخر وجلال محدقاً بعينيه اللامعتين الآسرتين في عشرات الألوف من البشر الواقفين بإصرار دؤوب لم يوهن من قوته حرارة شهر يوليو القاتلة ، عيونهم معلقة بشفتيه وقلوبهم تغلي بحماسة كرامة يريدون الثأر لها وفجأة صاح الزعيم بصوت شجي صادحاً جملته الشهيرة التي مازال صداها يتردد في تاريخنا كأنشودة مجد تليد "قرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية
باسم الأمة ... باسم الأمة
رئيس الجمهورية
مادة واحد تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية....."
هذه الكلمات لم تكن مجرد رد على رفض تمويل السد العالي ولم تكن مجرد إعلان لاسترداد لأرض مصرية بل كانت كلمة الفصل والختام في واحدة من أهم المعارك التي دارت بين الإمبريالية والقومية وكانت كلمة الفصل التي أعلنت انتهاء عصر الاستعمار الأوروبي واسطورة الرجل الأبيض حامل مشعل المدنية للهمج المتخلفين هذه المعركة التي اسدل الستار عليها في 26يوليو1956م بدأت أول فصولها في 24أبريل1859م عندما اعلن الخديوي إسماعيل في ذلك الوقت بداية الحفر في قناة السويس وعلى الرغم من سقوط مئات الألوف من المصريين ضحايا للكوليرا والتيفود وسوء التغذية في السنوات الخمس الأولى من حفر القنال صورت عملية الحفر على أنها إنجاز أوروبي من الألف إلى الياء فخر للإمبراطوريات التي استطاعت بقوة العلم والتكنولوجيا وعظمة المخترعات والآلات التي صممت خصيصاً للعمل في هذا الإنجاز الذي وجد لتمخر بواخر وأساطيل الإمبراطوريات عباب المحيطات حاملة مشاعل المدنية وعائدة بكنوز المستضعفين تحت دعوى إخراجهم من دياجير الهمجية ولكي ترسخ هذه الأسطورة في الضمير الغربي كان لابد من استخدام سلاح الإستشراق وتقديم صورة للمنجز الغربي للجمهور عن طريق الكتابة وتنظيم الرحلات والسلاح الأهم في تلك الفترة وهو سلاح الصورة ،الصورة دائماً بألف كلمة ولذلك كانت الصورة هي السلاح الأهم لإثبات حجة التفوق الحضاري أو كما يقول مارتن هايدجر "الحدث الأساس للعصر الحديث هو فتح العالم بوصفه صورة" وهذا الكلام هو شرح لما قاله جيرار دي نيرفال عندما وصف آلة التصوير الفوتوغرافي بأنها "أداة الصبر إذ تدمر الأوهام وتضع قبالة كل شكل مرآة حقيقية"،ولكنها بالفعل ليست الحقيقة فالحقيقة هي أن مصوري الفوتوغرافيا يشكلون العالم من وجهة نظرهم وكما يريدونه هم ويستبعدون العناصر التي لا يرغبونها بشكل سلبي، ولذلك ومنذ فجر إختراع التصوير مولت الإمبراطوريات الإستعمارية البعثات التصويرية ومن قبلها بعثات الرسامين المستشرقين واهتمت بخلق صورة معينة عن الشرق وسعت لترسيخها في ذهن مواطنيها لإشعارهم بالتفوق وبالدور الحضاري الذي عليهم أن يلعبوه في الشرق ولأن مشروعاً استعمارياً بالدرجة الأولى ولأن شركة قناة السويس للملاحة البحرية كانت نموذجاً مماثلاً لشركة الهند الشرقية ولها نفس الأهداف فقد شجعت هذه الشركة المصورين الفوتوغرافين على توثيق إنجازها الذي اعتبر تتويجاً لعصر الحداثة والمخترعات العلمية فإختراع المحرك البخاري واسطورة شق الصحراء التي تحولت إلى حقيقة كانت إيذاناً بعصر جديد أصبحت فيه الطرق والمواصلات والاتصالات أكثر سهولة ويسر وقد استجاب المصورين لهذه الدعوة بسرعة بسبب دعم الحكومات والأرباح التجارية المتوقعة من تهافت الغربيين على شراء هذه الصور سواء لمشاهدة المنجز الجبار أو رؤية كيف تحولت ضفتي القناةإلى مدن على الطراز الأوروبي الحديث في قلب الشرق على الطريق الواصل بين ضفتي العالم وبين حضارة الفراعنة والأرض المقدسة الأماكن التي سعى وعاش فيها أنبياء العهدين القديم والجديد كذلك أرادت الشركة بهذه الصور والألبومات التي غزت أوروبا والعالم إثبات مدى أمان الممر الملاحي الجديد واتساعه وصلاحيته لمرور السفن الحديثة.
كان من أوائل المصورين الفوتوغرافين الذين ذهبوا إلى منطقة القنال واستقروا فيها وافتتحوا استوديو في بورسعيد الفرنسي هيبوليت أرنو Hippolyte Arnoux والذي لقب أيضاً بمصور الشركة العظمى ولم يذكر التاريخ الكثير عن الرجل حتى أن تارخي ميلاده ووفاته غير معلومين الثابت أنه بدأ عمله في مصر ككثيرين من أقرانه بالقاهرة في بدايات ستينيات القرن التاسع عشر وكان مصوراً للكروت السياحية والصور الاستشراقية التجارية بالإضافة إلى صور الاثار ورحلات الحج للأراضي المقدسة في فلسطين كما قام برحلات إلى السودان والصومال وأثيوبيا وألبومات هذه الرحلات تضمها المكتبة الوطنية الفرنسية الآن ،ولكن سرعان ما تحول اهتمام آرنو ربما بحكم أنه فرنسي وأن مشروع القناة كان مشروعاً فرنسياً إلى قناة السويس تحت شعار بدلاً من تصوير الماضي في الواديتصوير الحداثة في قناة السويس أو تصوير المستقبل كما أسماه وهكذا شد آرنو الرحال إلى بورسعيد حيث بدأ بتوثيق الحفر في برزخ السويس خطوة بخطوة في أحد عشر ألبوم هم الان من مقتنيات الأرشيف الوطني الفرنسي ، وكان آرنو قد افتتح استوديو في الميدان الرئيس ببورسعيد وأسماه استوديو القنال كما اشترى مركباً أسماه مصور القناة وضع فيه غرفة مظلمة للتحميض الفوري للصور الفوتوغرافية ،وآرنو نفسه هو صاحب ألبوم قناة السويس Album du Canal de Suez الذي طبع في بورسعيد ووزع في جناح قناة السويس بمعرض باريس1889م وتصدرته صورة فرديناند ديلسيبس وضم صوراً لتطور العمل في القناة منذ البدأ فيه وحتى انتهائه وحركة الملاحة والحياة في مدن القناة أيضاً وقد دخل آرنو في شراكة مع اثنين من المصورين هما الأخوين زنجاكي اليونانيين Adelphoi Zangaki جورجيوس(1845م- 1895م) وقنسطنطين(1845م- 1916م) الذين جاءا إلى مصر كمصورين تجاريين ووزع الأخوين جهودهما بين القاهرة حيث المناظر الإستشراقية والآثار وبين بورسعيد وضفاف القناة بمساعدة من أسموهم بالعربان ملتقطين الصور من البر بينما يلتقط شريكهم آرنو صورة من البحر وقد تضمن ألبومهم صور من مصر بعض من صورهم للقناة التي يوجد نسخ من أغلبها في المكتبة البريطانية.
جستين كوزلوسكي Justin Kozlowski ولا يعرف عنه أكثر من أنه كان لاجئاً بولندياً لفرنسا منذ عام 1830م وأن له ألبوم واحد بعنوان إنشاءات قناة السويس Construction of the Suez Canal ضمن فيه صور للإنشاءات والأبنية وأعمال ىالبناء في القناة منذ 1869م وكل ما يعرف عنه أنه هاجر إلى الولايات المتحدة في سبعينيات القرن.
فرانسيس فريث Francis Frith (1822م- 1898م) لم يكن فرانسيس فريث مقيماً في منطقة القناة ولا في مصر بل كان مصوراً إستشراقياً يجوب الشرق الأوسط وقام بعدة رحلات لتصوير مصر والأراضي المقدسة وكانت القناة إحدى محطاته في رحلته الثالثة 1860م وقد استخدم كمصور جوال تقنيات الكولودين على الزجاج وكان يقوم بالتحميض في خيمة صغيرة ومازالت شركة فريث وشركاة في لندن تبيع نسخ من صور فريث وقد أصبحت هذه الشركة التي أسسها عام1859م إحدى أهم أستوديوهات التصوير في العالم.
ويلهم همرشميدت Wilhem Hammerschmidt ولد شميدت في حدود1830م وعمل في برلين والقاهرة في الفترة من 1858م ل1870م وأدار للمصور الفرنسي الشهير فيلكس بونفيلس الأستديو الذي افتتحه لفترة في القاهرة وكانت صور هامر شميدت تتميز بالتقنية العالية والحفاظ على طابع الإضاءة الساطع لمنطقة جنوب المتوسط وفي بداية عمله في مصر عمل في الرحلات النيلية في مصر والسودان وكذلك في الصحراء الليبية وتميزت صورة بالبانورامية التي اكتسبها من تصوير الرحلات وقد عرض هامر شميدت صورة في المعرض العالمي في باريس وطبقاً لموسوعة فوتوغرافيا القرن التاسع عشر فإن صور إحتفالات افتتاح قناة السويس1869م والتي طافت العالم ونشرت على نطاق واسع بعد هذه المناسبة تعود إلى ويلهم هامر شميدت ولم يعرف شيء عن حياته بعد هذا التاريخ ،ولم يكن هؤلاء فقط هم من قاموا بتصوير القناة بل أصبحت القناة محجة للمصورين والرحالة والمستكشفين الأقل احترافية أو الذين مروا بها مروراً عابراً في إطار رحلاتهم وقاموا بتصوير المراكب والسفن والمدن أما المصورين المحترفين الذين ربما صوروا الأشخاص والمدن بغرض جني الربح وصناعة الكروت بوستال للعابرين والألبومات التي شاركوا فيها في المعارض العالمية وبيعت في المتاجر الأوروبية ، فإن اهتمامهم الرئيس كان بالمشروع العملاق ولذلك ورغم تنوع مشاربهم واختلاف المدة التي قضوها على ضفة القناة إلا أن صورهم كانت في أغلبها يجمعها الطابع الهندسي والمنظور الأفقي أو الرأسي العمودي مع اتخاذ زوايا رؤيا لتضخيم الآلات أو المراكب والمعالم التي في الصورة أما العنصرالبشري القليل جداً في الصور فكان كعامل مساعد لإيضاح الضخامة وإضفاء الجلال على الصورة الهدف الرئيس كان الرهبة والقوة والعظمة لم يختلف في هذا مصور عن آخر كان للصور هدف واحد إظهار التفوق وتعضيد مجد الإمبراطوريات الاستعمارية معمرة الصحراء ،فالصورة كانت سلاحاً لإظهار التفوق استخدم على مدار أعوام حفر القناة ومابعدها كما استخدم مرة أخرى أيضاً عندما أحتل الإنجليز مصر في العام1882م بهدف حماية المصالح الأجنبية والملاحة في القناة أيضاً فصور آرنو نفسه وأيضاً الأخوين زانجاكي الإسكندرية التي حطمتها مدافع أسطول ويلسلي في العام1882م وسوتها بالأرض صور هؤلاء ومعهم مجموعة من المصورين الأجانب الآخرين أبرزهم الإيطالي لويجي فيوريللو المدافع المدمرة والمباني المهدمة وجثث القتلى من جيش عرابي والمدنيين العزل في الاسكندرية  والتل الكبير بل إن فيوريللي طبع ألبوماً كاملاً لما سمي بالحرب الأنجلو مصرية محققاً أرباحاً هائلة وصور زانجاكي نفسه مع المدافع والجثث بينما اكتفى آرنو بصور الأشلاء الممزقة والعتاد المحطم على طريق التل الكبير ،وكانت صورة ميدان المنشية (القناصل في تلك الفترة) الذي سوي بالأرض رمزاً لعظمة وجلال الإمبراطورية البريطانية ومصدر فخار لأبناءها ربما كان هذا هو السبب الذي دفع عبد الناصر ليعلن قرار التأميم1956م من قلب الميدان نفسه ليكتب بكلماته بداية نهاية عصر كامل من الإمبريالية الفرنسية البريطانية وتسجل الصورة الفوتوغرافية والمتحركة هذه المرة أيضاً لحظة النهاية في مصر كما سجلت لحظات البداية فيها وتعود مصر للمصريين.




الحفار العملاق أعمال البناء في القناة -جاستين كوزويلسكي

الحفار العملاق أعمال البناء في منطقة السيرابيوم بالقناة-جاستين كوزويلسكي

رصيف الفحم ببورتوفيق -تصوير جاستين كوزويلسكي

عمال الحفر الإيطاليين والأجانب وتظهر في خلفية الصورة معدات الحفر الحديثة - تصوير جاستين كوزويلسكي

عمال الحفر الإيطاليين والأجانب ومسؤولين من إدارة القناة مع موظفين حكوميين مصريين وتظهر في خلفية الصورة معدات الحفر الحديثة - تصوير جاستين كوزويلسكيز

غلاف ألبوم جاستين كوزويلسكي السويس

منصة الاستقبال الرئيسية - تصوير ويلهلم هامر شميدت

غلاف ألبوم هيبوليت أرنو لصور قناة السويس -بورسعيد

قوافل العربان القاطنين في منطقة القناة   - تصوير أرنو

قوافل لنقل الإمدادات للعاملين في بداية أعمال الحفر - تصوير أرنو

مرور قافلة من السفن ويظهر في الخلفية مبنى شركة قناة السويس للملاحة تصوير هيبوليت أرنو1875









هناك تعليق واحد: